A t h a g a f y
 is presented fully in Arabic and is best experienced using Internet Explorer

شخصية إسلامية حق علينا الإشادة بها

حتى لا ننسى هؤلاء العظماء ونبقي ذكرهم شامخ ، أفردنا هذا الباب لهم ، نهديه إلى قادة الأمة وكافة أفرادها وخاصة شبابها

نقتطف من مواقع الشبكة أو الكتب ، تاريخهم وقصة حياتهم

الأرشيف أو ما نشر من هذه السلسلة

يوسف بن تاشفين في الأندلس

بتصرف من مجلة الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
 

 

أطلق العرب اسمم (الأندلس) على الجزء الجنوبي من شبه جزيرة (أيبريا) الواقعة في الجنوب الغربي من قارة أوربا، والتي تسمى الآن ( أسبانيا).
وكانت الأندلس تمتد إلى الشمال من الوادي الكبير، والى الجنوب والشرق منه حتى بحر الروم (البحر الأبيض المتوسط) تجاه بلاد المغرب الأقصى حيث يفصلها عن قارة أفريقيه بحر الزقاق (مضيق جبل طارق).

وإطلاق العرب اسم الأندلس مأخوذ عن قبائل الفندال الذين طردوا الرومان، وأسسوا على نهر الوادي الكبير مملكة سموها باسمهم (الفندال) ومنها جاءت كلمة فندلس التي نطق بها العرب (أندلس) و أطلقوها على هذه البلاد.
كان العرب يتطلعون إلى فتح بلاد الأندلس منذ خلافة معاوية بن أبى سفيان إلى أن ولى عقبة بن نافع بلاد البربر(شمال افريقيه) وأسس مدينة القيروان، وأخذ يتوغل في الفتح حتى وصل إلى بحر الظلمات (المحيط).
ولم يستسلم البربر بسهولة فقد ظل المسلمون يقاتلون ما يقرب من نصف قرن ولم يخضعوا إلا بعد أن فهموا مبادئ الدين الإسلامي، وعرفوا أن المسلمين ليسوا قوماً مستعمرين، و إنما هم أصحاب عقيدة ومبادئ ثم لم يلبثوا أن اعتنقوا الإسلام، واطمأنوا إلى العرب، وأصبحوا أمة واحدة.

وفى عام 91 هـ أمر الوالي موسى بن نصير قائده طارق بن زياد أن يكوّن جيشاً من العرب والبربر، وأن يتجه بهم إلى الأندلس، فاستعد هو ومن معه، واخترقوا بحر الزقاق، ونزلوا على صخرة هناك سميت بعد ذلك بجبل طارق، وما زال بسكان البلاد (القوط) حتى هزمهم، وقتل ملكهم لذريق. ومنذ ذلك الحين دانت البلاد للمسلمين، واستولوا عليها شيئاً فشيئاً، والمسلمون يتقدمون في فتوحاتهم حتى اخترقوا جبال البرانس من الشرق إلى بلاد الغال (فرنسا الجنوبية) ووصلوا إلى مدينة بردو ونهر الرُّون.

وما أن استقر المسلمون في هذه البلاد حتى نزح العرب من كل قبيلة، وهاجر إليها كثير من أهل المدن في شرق البلاد وغربها، واتصل كل هؤلاء بسكان البلاد الأصليين من قوط وغيرهم، وقد أسلم كثير منهم من مسيحيين ويهود، فصاروا مجتمعاً واحداً، ترفرف عليه المحبة والصداقة والأخوة، فاندمج بعضهم في بعض بالتزاوج والمصاهرة، فنشأ جيل جديد يجري في عروقه الدم العربي، ويتصف بصفات العرب من غيرة وكرامة وصفاء في القريحة فامتازوا بدقة الإِدراك، وسعة الخيال، وقوة الفكر، فكان شعباً جديداً، ألبسه الإسلام ثوباً جديداً.

ولقد حكم هذه البلاد بعد الفتح أكثر من عشرين أميراً من الأمويين، فتوغلوا في البلاد، وامتد سلطانهم عليها، ولم يدخروا وسعهم في إسعادها، ومحاولة أن يجعلوا منها جنة الله في أرضه.

ثم أتى عبد الرحمن الداخل بن معاوية بن هشام بن عبد الملك من الشرق، واستولى على البلاد، واستتب له الأمر عام 141هـ، وجعل عاصمة ملكه قرطبة، وأسس بها دولة بني أمية التي زالت من المشرق بعد أن قوضها العباسيون.
كانت أعظم دول العرب هناك، وعصرها أزهى عصور الحضارة الإِسلامية بالأندلس وقد حكمها في هذه المدة من بني أمية تسع عشرة خليفة، وكان من أعظم الخلفاء عبد الرحمن الثالث الذي حكم الأندلس من عام 300 إلى 350هـ.

وهكذا فقد تولى حكمها خلفاء أمويون امتازوا بكل ما يمتاز به القادة من ذكاء وعلم وخبرة ومعرفة وبطولة، وكانوا دائماً في جهاد وعلى أهبة واستعداد للقاء الأعداء في خارج البلاد وداخلها، فكانوا موضع إعجاب وتكريم واحترام غزير المسلمين.

كان المسلمون يعيشون في سعادة وهناء، فالخير لا ينقطع، ولا يقل بل يكثر ويزيد على مر السنين والأيام، ثم انقطع الناس عن تعاليم الدين، وانشغلوا باللهو والشهوات والنساء، فابتعدوا بما عملوا عن الدين الحنيف، وانصرفوا عن الجهاد، ودبَّ فيهم الخلاف، وما كاد القرن الرابع ينتهي حتى كانوا قد أنهكوا، وزاد الشقاق، وأصبح المسلمون ينظر بعضهم إلى بعض، وكأنهم هم الأعداء فهذا عربي وهذا بربري وهذا مضري وهذا قحطاني، وبرزت العصبية الجاهلية، وتكونت جماعة من الأفاقين والإنتهازيين، فتطلعت إلى الحكم والرياسة، وانتهزوا فرصة ضعف الخليفة الأموي، فعملوا على التخلص منه حتى يقسموا البلاد بينهم.

ولكي يتخلصوا من آخر الخلفاء الأمويين، حتى يسقطوا حق بني أمية في المطالبة بالملك، اجتمع المتآمرون في مجلس يدعى مجلس الكبراء في أواخر القرن الرابع الهجري بدعوة من ابن جهور، وأخذوا يتناقشون، واستقر رأيهم على إلغاء الخلافة.

ركبوا الخيل يحيط بهم الحراس والموالي، والكل مسلحون إلى قصر الخلافة، ونادوا آخر خلفاء بني أمية هشاماً الثالث، وطلبوا منه النزول من البرج، ثم حبسوا هو ونساؤه في قبو مظلم، يرتعد من البرد الشديد، وقد اشتد الجوع بالجميع، وكان الخليفة يحتضن ابنته الصغيرة، وهي تصرخ من شدة الجوع، ولم يقدم لها أحد شيئاً، فلما تكلموا في التنازل عن الخلافة، قاطعهم الخليفة قائلاً:
"نعم نعم!! إني سأخضع إلى حكمكم كيفما كان، ولكني أسألكم بالله تعالى أن ترسلوا لي شيئاً من الخبز..... إن هذه الطفلة ستموت بين يدي من الجوع"، فأمروا بإحضار الخبز.

ثم قالوا:
"يا مولانا إن المجلس قرر أن تؤخذ عند الفجر لتسجن في قلعة كذا" فأجاب الخليفة:" فليكن... وليس لي الآن إلا رجاء واحد، وهو أن تأمروا لنا بمصباح لأن ظلمة هذا المكان الموحش تزعجنا وتخيفنا".

وهكذا سمع الصليبيون في أوربا ما يفعله المسلمون بخليفة المسلمين بالأندلس، خليفة يستجدي خبزاً وشمعة تضيء له ولأهله وأطفاله السجن.

هكذا تخلصوا من الخليفة، وقسموا البلاد التي كانت دولة واحدة إلى إمارات صغيرة، يحكمها انتهازيون مخادعون أفاقون، استولوا على البلاد ليوزعوها بينهم، وتغلب كل على جهة منها، وضبط كل متغلب منهم على ما استولى عليه بكل القوة والقسوة والظلم، ولم تمر أيام حتى اعتبر كل واحد منهم أنه صاحب ملك حر التصرف فيه، أحاطوا أنفسهم بكل أنواع الملذات من الحياة، وجعلوا ولاية العهد في أعقابهم، وتسموا بأسماء مختلفة فبعضهم تسمى بالمأمون والآخر تسمى بالمستعين والمقتدر والمعتصم والمعتمد والموفق والمتوكل.

مما يزهدني في أرض أندلس         أسماء مقتدر فيها ومعتصم

ألقاب مملكة في غير موضعها        كالهِرِّ يحكي انتفاخاً صولة الأسد

 ثم توارثها الأبناء عن الآباء، بعيدين عن تعاليم الإِسلام، غارقين في الشهوات والفساد.

يسمي المؤرخون هؤلاء الحكام ملوك الطوائف واستمر هذا العصر البغيض أكثر من سبعين عاماً، كانت كل ولاية مستقلة عن الأخرى، بل إن القوي كان يلتهم الضعيف، وما فعله المعتضد زمن حكمه ولاية أشبيلية وابنه المعتمد من بعده يدعو إلى الأسى والحزن العميق. وكان الحاكم منهم لا يرى بأساً في أن يستعين بأعداء المسلمين على إخوانه بلا وازع ولا خوف.

وهكذا مهد هؤلاء القوم لظهور اتحاد الصليبيين من إيطاليا وفرنسا وأسبانيا مهمته التخلص من المسلمين المتناحرين، ورد البلاد إلى دينها الأول.

بدأوا يلعبون بالحكام المسلمين، يستولون على أطراف البلاد، ويضمونها إليهم، والحكام يميلون إلى المسالمة، ويحسبون من جهلهم أنها نوع من بعد النظر، ثم يطلبون منهما الأموال فيسرعون إلى تلبيتهم، فيعطونهم أكثر مما يطلبون، ويعدون ذلك مأمناً لهم، ووثوقاً بهم، وفجأة وجدوا أنفسهم دخلوا في دائرة الحكام النصارى، يطلب منهم ترك ثغر من الثغور فيستجيبون مسرعين، وكان آخرهم الفونسو السادس الذي أذاق حكام المسلمين الويل والذي قال عنه المؤرخون:

"كانت شخصيته بغيضة منفره، شديدة الجشع، مطبوعة على الإِجرام نزاعة إلى القسوة والغدر والخيانة".

هذا الفونسو أخبر مجالس الكنائس أن بلاد المسلمين في قبضته، وأنها ستسقط بين لحظة وأخرى.

بدأها بالاستيلاء على طليطلة بمساعدة المعتمد بن عباد سنة 478هـ، وخرجت من قبضة المسلمين بعد أن حكمها المسلمون ما يقرب من أربعمائة سنة.

كان لسقوطها دوى في العالم الإسلامي مشرقه ومغربه بعامة وفى الأندلس بخاصة.

راح يلعب بالحكام، وكأنهم على لوحة شطرنج، حتى أدرك المسلمون أن الحياة في الأندلس مستحيلة، وأن أيام المسلمين فيها معدودة، وأن النصارى لن يتراجعوا حتى يستولوا على البلاد.
راح الشعراء يتباكون، ويحثون الناس على الفرار بدينهم متخذين مما حل بطليطلة حجة ودليلاً.

يا أهل أندلس حثوا مطيكم    فما المقام بها إلا من الغلط
الثوب ينسل من أطرافه وأرى    ثوب الجزيرة منسول من الوسط
ونحن بين عدو لا يفارقن    اكيف الحياة مع الحيات في سفط

هذا ما جرى بالعُدوة الأندلسية، أما ما كان يجري بالعُدوة في المغرب، فقد كان فيها حركة إسلامية سلفية رائدها إقامة الشعائر الإسلامية والجهاد، وكان هو الطريق الوحيد لتخليص البلاد من كل ما يبعدها عن الإسلام الصحيح وكان المرابطون بقيادة يوسف بن تاشفين قد قاموا بمجهود عظيم استطاعوا به أن يخلصوا المغرب من الفرقة والجهل بأمور الدين وأن يوحدوا صفوفه ويجعلوه تحت حكم واحد وقيادة واحدة بعد أن كان ولايات مختلفة متخاذلة، وكان يوسف قد علا صيته، وانتشرت أخباره في أوربا والأندلس، وأصبح قوة يرهبه الجميع عندئذ فكر الفقهاء والعلماء في دعوة المرابطين لنجدتهم، إذ هم الورقة الأخيرة التي في يد المسلمين بالأندلس واتجهوا إلى الله أن يجعل النصر على أيدي تلك الفئة المؤمنة بالله القوية به والتي تستمد النصر بالتقرب إليه وتنفيذ أحكامه.

كتبوا إلى يوسف، يرجونه أن يأتي إليهم ليخلصهم مما أوقعهم فيه ملوك الطوائف، وحثوا الأمراء والحكام على أن يتصلوا بيوسف، وذهبت الوفود إلى المغرب باكية، لتذكر ما حصل وحل ببلاد الأندلس، وكان في مقدمة الداعين أبو الوليد الباجي الذي طاف بالممالك المختلفة يدعو الملوك إلى جمع الكلمة والإستعداد للإنخراط في صفوف المجاهدين.

علا الصوت الذي ظل زمناً طويلاً لا يجد المجال لإعلان رأيه، واتصل فقهاء الأندلس بإخوانهم فقهاء المغرب، وراحوا يمهدون للقاء الجيوش المرابطة التي ستحل بالجزيرة لإِنقاذ البلاد.

استجاب يوسف بن تاشفين لدعوة الأندلسيين، ورأى أن فريضة الجهاد توجب عليه أن يسرع لتلبية إخوانه المسلمين، لا في الأندلس وحدها بل في أي مكان، فقد عرف حق الجهاد، وهو بما تعلمه من الإسلام، ومعرفته للجهاد لا يفكر إلا فيه، وكانت كلمة الجهاد لا تفارق لسانه فحينما عبر البحر، وسار إلى الجزيرة الخضراء، طلب منه ابن عباد أن يستريح في عاصمة ملكة أشبيلية فقال له:

"إنما أتينا للجهاد".

وحينما تقدم ملوك الطوائف إلى يوسف يشكو كل واحد الآخر قال لهم:
" لم نأت لهذا، والسلاطين أعلم بما يصنعون في بلادهم!! ".

وهكذا لم يكن الدافع ليوسف إلا الجهاد، والجهاد وحده منفذاً تعاليم الإمام والمربى عبد الله بن ياسين "[1] .

وبدأ الاستعداد العلمي السريع بحذر وحيطة وذكاء، فلقد انتقل من مراكش عاصمة ملكه في قلب الصحراء إلى شاطيء البحر، وأشرف على السفن المعدة للإِيجار إلى الجزيرة الخضراء مفتاح الأندلس، وتكلم مع قائده ابن عائشة، ووصاه بأن ينزل إلى الجزيرة، فيستولى عليها ويحصنها، ويراقب البحر والجبال والوديان حتى لا يؤخذ على غرة.

كان المعتمد بن عباد يعتقد- وقد استولى من قبل على الجزيرة عند من حاكمها المسلم- أنه سيشترك مع المرابطين في التنظيم والإعداد إن لم يجعلوه قائداً على الجيوش، ولكنه وجد أن القوم مستقلون بأنفسهم وبأعمالهم،لا يرغبون أن يدخل بينهم إلا من هو من المرابطين.

توالت السفن تحمل العدة والعتاد والرجال من مدينة سبته المغربية- أعادها الله هي ومليلية إلى المسلمين[2] - وكان آخر جندي يركب السفينة القائد العبقري أمير المسلمين يوسف بن تاشفين.

كان ذلك ضحى يوم الخميس منتصف ربيع الأول سنة تسع وسبعين وأربعمائة من الهجرة بعد أن اطمأن على عبور جيشه المبارك، وما كادت السفينة القائد العظيم تمخر عباب مضيق جبل طارق لتتجه إلى الجزيرة حتى اضطرب البحر، وتعالت الأمواج، فنهض الأمير واقفاً وسط السفينة يستصرخ الباري سبحانه وتعالى وقد بسط يديه بالدعاء نحو السماء قائلاً:

" اللهم إن كنت تعلم أن في جوازنا هذا خيرا للمسلمين فسهل علينا جواز هذا البحر، وإن كان غير ذلك، فصعبه حتى لا أجوزه ".

فاستجاب الله الدعاء، فما كاد يتم كلامه- كما يقول ابن تاشفين- حتى سهل الله المركب، ووصل الطلب، وعبرت السفينة المضيق في ريح طيبة وبحر هادىء، ووصل القائد إلى أرض الجزيرة بسلام.

وما أن رأى الناس يوسف حتى دوت الأصوات بالتكبير والحمد الله، وتقدم إليه المعتمد بن عباد، ونزل عن فرسه، وأراد تقبيل يد يوسف، فمنعه من ذلك، وبادر إلى معانقته، وسأله عن حاله، وأطال معه الحديث.
وأراد المعتمد أن يأخذه إلى عاصمة ملكه ليستريح، فقال رحمه الله:

" إنما جئت ناوياً الجهاد، فحيثما كان العدو توجهت ".

وكان يوسف قد كتب إلى سائر حكام الأندلس، فتوافدوا إليه سريعاً، وكان معهم ابن بلقين حاكم غرناطه، وأخوه تميم حاكم مالقة، وعمر المتوكل صاحب بطليوس وغيرهم.

وصل الجميع إلى أرض المعركة في مكان يسمى (الزلاقة) يقع على مقربة من حدود البرتغال غرب الأندلس، والذي استقر رأي أمير المسلمين على أن يعسكر فيه بعد أن أتته الأخبار بأن الفونسو يتجه بجيوشه إلى جهة الغرب من الأندلس.

فرق يوسف بين جيوش المرابطين، وجيوش الأندلس، وجعل الأولى مستقلة تماماً عن غيرها بقيادته وقيادة أبى داود سليمان بن عائشة، ومعه فرسان البربر، والقائد البطل أبو بكر بن سير ومعه جيش للطوارئ ولما يستجد من أمور، وذلك حَسْب تخطيط بارع دل فيما بعد على عبقرية يوسف الحربية.

وكانت جيوش الأندلس تحت قيادة المعتمد بن عباد وابن الأفطس وأخذت مكانها في المقدمة، بينما كانت جيوش المرابطين في المؤخرة.

كانت الأخبار قد وصلت إلى الفونسو ملك قشتاله، وكان محاصراً لسرقسطة المسلمة يريد الإستيلاء عليها، ففك الحصار، وأرسل إلى جلاقة وليون وقشتاله، لترسل له الجيوش، وقد اتخذ من طليطلة مكاناً للتجمع، وكذلك أرسل إلى فرنسا وإيطاليا وغيرهما، وتحولت إلى حرب صليبية، رفع فيها القساوسة والرهبان والأساقفة الصلبان، ونشروا الأناجيل، ودعوا لقتال المسلمين.

وكتب الفونسو إلى المعتمد يقول:
" إن صاحبكم قد تعنى من بلاده، وخاض البحار، وأنا أكفيه العناء فيما بقي، ولا أكلفكم تعباً، أمضي إليكم، وألقاكم في بلادكم رفقاً، وتوفيراً عليكم ".

استعد الفونسو للمعركة، وقدرت جيوشه بثمانين ألف مقاتل، لأنه اعتقد أن هذه هي الضربة الأخيرة في الأندلس، وبعدها سينتهي أمر المسلمين إلى الأبد. أرسل جواسيسه ليأتوا بالأخبار، فعرف أن جنوده أضعاف عدد المسلمين، فنظر إلى جموعه قائلاً:

" بهؤلاء أقاتل الجنَ والإنسَ وملائكة السماء ".

ونادى على كاتبه الذي يجيد العربية فأمره أن يكتب كتاباً مطولاً إلى يوسف يتوعد ويهدد وينذر.

فلما وصل الكتاب إلى أمير المسلمين أجاب مبتسماً، واثقاًً من نصر الله قائلاً:

"هذا كتاب مطولة، اكتبوا على ظهره:

"الذي يكون ستراه ".

وأرسل إليه رسالة أخرى يخيره فيها بين الإسلام أو الجزية أو القتال. فلما وصل الكتاب إلى الفونسو، قال للرسول:

" قل لسيدك أنتم الذين تدفعون الجزية لي ".

مشيراً بذلك إلى أن معظم ملوك الطوائف كانوا يدفعون الأموال الطائلة للفونسو زيادة على ما يقتطع من الأرض والبلاد، وفى مقدمة هؤلاء الملوك المعتمد بن عباد الذي يعتبر أقوى هؤلاء الملوك .
أما من جهة القتال، قال الفونسو:

"إن الجمعة للمسلمين، والسبت لليهود، والأحد للنصارى! وسنلتقي يوم الإثنين ".

وكان المعتمد يعرف غدر الفونسو فأخبر يوسف بما ينطوي عليه الميعاد من غدر.

فقال يوسف:

" سنكون مستعدين لكل شيء ".

جاءت عيون جيش المسلمين تخبر ليلة الجمعة بالجلبة والحركة والضوضاء في معسكر النصارى، فأخذ المسلمون أهبتهم متحفزين.

وما كاد يظهر ضوء صبح الجمعة الثاني عشر من رجب سنة تسع وسبعين وأربعمائة من الهجرة حتى زحف النصارى وبدأ القتال، وهجمت مقدمة القشتاليين والأرجوانيين بقيادة البارهانيس على القوات الأندلسية التي يقودها المعتمد بن عباد، وما كاد العدو يوجه ضربته إليهم حتى خارت قواهم، وفروا ليعتصموا بأسوار بطليوس القريبة تاركين المرابطين وحدهم.

لعل خُطة الفونسو هي ضرب القوات الأندلسية، ثم القضاء على المرابطين وبهذا يتم له النصر والإستيلاء على البلاد، وطرد المسلمين منها.

ولكن الله كان له بالمرصاد، والمولى سبحانه وتعالى هو الذي أعد يوسف لهذه الساعة، لتكون نذيراً للمسلمين كي يرجعوا إلى دينهم الحنيف.

كان يوسف يراقب تحركات العدو، ويأتيه المراقبون بالأخبار، ولقد ثبتت شرذمة قليلة كانت تحارب مع المعتمد بن عباد، الذي صمد أمام ضربات الأعداء، فأصدر يوسف أمره سريعاً إلى قائده ابن عائشة بالإسراع إلى نجدة ابن عباد، ولكن هذه الفرقة لم تؤد الغرض الذي من أجله أرسلت، فقوات العدو الكثيرة تتقدم بسرعة، فأرسل إليهم قائده سير بن أبى بكر، ووقعت بين قوة العدو وبين القوتين معارك ضارية، وانشغل النصارى بقتال الفرقتين، ووجهوا كل اهتمامهم إلى هؤلاء، وهذا ما كان يهدف إليه القائد العبقري، وهو ما عمد إليه يوسف، حتى يُظْهِر المفاجآت، والمفاجأة لها دخل كبير في كسب الإنتصار، وهذا ما عمد إليه يوسف، فقد نزل بنفسه إلى قلب المعركة بقوة لمتونية[3]، وبخطة لم تخطر على بال،

فكانت المفاجأة الأولى

لقد انقض على جيوشهم من الخلف، وهجم على معسكراتهم، وكانت الحراسة ضعيفة، فأضرم فيها النيران التي قضت على كل ما فيها، ووثب على مؤخرة العدو، وأدار فيهم القتل.

وكانت المفاجأة الثانية

وهي تحطيم الروح المعنوية في جيش الأعداء فأمر فرق الطبول أن تضرب، فكان صوتها يشق عنان السماء، ووقع الرعب في قلوبهم، فلم يتعودوا مثل هذا في الحروب، وأصيبوا بزعر شديد حينما شاهدوا النيران تلتهم معسكراتهم.

ولما علم الفونسو بما حصل لمحل قيادته، إرتد على عقبيه، فاصطدم بمؤخرة المرابطين، ودارت معارك رهيبة، والقائد العبقري العظيم فوق فرسه يتلو القرآن، ويحث جنوده على الثبات، ويرغبهم في الإستشهاد، وصوت الطبول ما يزال يدوى في الفضاء فيرهب الأعداء، فيولون منه الأدبار.

لقد تحكم المرابطون في جبهة القتال، فأرسل القائد البطل أمره إلى الجنود بتغيير الخطة،

وكانت المفاجأة الثالثة

فقد بدأ القتال في صفوف متراصة متناسقة ثابتة، وهى خطة مبتكرة في القتال لم يعهدها النصارى من قبل، أذهلت العدو، وأصبح ميدان الحرب وكأنه صالة عرض يلعب فيها المرابطون بالسيوف والرماح.
 

وكانت المفاجأة الرابعة

وهي الضربة الأخيرة، فقد أشار القائد المسلم العبقري إلى القوات السودانية[4] بالنزول إلى قلب المعركة، وكان قوامها أربعة آلاف مقاتل بمزاريق الزان وسيوف الهند، فانقضوا على النصارى كالصاعقة واستطاع أحدهم أن يرسل إلى الفونسو طعنة بخنجر في فخذه، إلا أنها لم تكن القاضية، ففر بجرحه.

يقول أمير المسلمين يوسف في رسالته إلى مراكش العاصمة:
" وتسلل الفونسو تحت الظلام، فاراً لا يهدى ولا ينام، ومات من الخمسمائة فارس الذين كانوا معه بالطريق أربعمائة، فلم يدخل اللعين طليطلة إلا في مائة فارس ".

لقد كان نصراً مبيناً، أيده الله ورعاه، وكان يوسف ومن معه أشداء على الكفار، فقد وفقهم الله، ليكونوا عظة وعبرة، ودليلاً على أن من استمسك بحبل الله فالله معاونه وناصره.

كانت الزلاقة كيوم القادسية واليرموك، عمت بها الفرحة في المشرق والمغرب، ووصلت وفود المهنئين إلى أمير المسلمين يوسف بن تاشفين، وأرسل الإِمام الغزالي إلى يوسف يهنئه بنصر الله ويعده باللقاء، فلقد اعتبره الأمير المثالي، ورجا الله ودعاه أن ينصر الإِسلام والمسلمين بابن تاشفين.

هدد الفونسو أهل الصليب بترك الأندلس للمسلمين إذا لم يساعدوه بكل ما يستطيعون فأرسلوا إليه آلاف المقاتلين، فأخذ يستعد لقتال المسلمين، وابتنى قرب مُرْسِية حصناً ضخماً ليكون قاعدة للإغارة على تلك المناطق، في مكان اسمه لييط شحنه بالمقاتلة حتى بلغ حاميته ثلاثة عشر ألف مقاتل، فيهم ألف فارس.

وبدل أن يتحد ملوك الطوائف، ويواجهوا قوة الفونسو ومن معه، أصبحوا يتواكلون على يوسف، فنجد ابن عباد الذي اعتبر نفسه قائد الأندلس وحاميها، يستعين بيوسف مرة ثانية، فقد عبر بنفسه إلى المغرب، والتقى بأمير المسلمين، وعرض عليه الأمر، فوعده يوسف خيراً، واستعد للجواز الثاني وذلك في عام 481هـ.

وتوجه ومن معه من المرابطين إلى حصن لييط، ولحق به عدد من ملوك الطوائف ومعهم قواتهم وضربوا حصاراً حول الحصن دام أربعة أشهر، والقوات من داخل الحصن تتساقط من الجوع والإِعياء، ورغم ذلك فقد كان من أهل الحصن ينقضون على المسلمين فينزلون بهم الخسران، ثم يرجعون إلى الحصن.

ما الذي شجع أهل الحصن على ذلك؟ وهل يوجد خونة في صفوف المسلمين؟ أو تخاذلت البعض؟ الذي لا نشك فيه أن المسلمين لم يكونوا يداً واحدة !

لقد جمع يوسف كل ما يحتاج إليه من معلومات، فقد رأى ملوك الطوائف وكيف يكيل بعضهم لبعض الإتهامات، ويتهم بعضهم بالخيانة، والتواطؤ مع الأعداء، بل لقد علم أن بعض الملوك كان على صلة بمن في الحصن، وأنهم قدموا إليهم مساعدات أدت إلى مناعة الحصن، وأن بعضهم بدأ يخاف من قوة المرابطين المتسمة بالجد والعمل، وأن الناس في الممالك لا حديث لهم إلا عن المرابطين، وضعف الملوك.

لقد خرج يوسف بنهاية مؤسفة من مخالطته لهؤلاء القوم وهى أنه ليس في ملوك الطوائف من يستطيع أن يتحمل مسئولية الحكم والدفاع عن البلاد، وأنهم لا يرجى منهم نفع لا لأنفسهم ولا للمسلمين، وأنهم يتخبطون في حياتهم ولا هم لهم إلا شيء واحد هو المحافظة على الكرسي الذي يجلسون عليه.

لما أراد يوسف الرجوع إلى بلاده، اجتمع حوله الملوك، وكلموه في أن يترك لهم جيشاً يحميهم من هجوم الفونسو قال لهم:

"أصلحوا نياتكم تكفوا عدوكم ".

أثار هذا التصريح خوفهم، فرجع بعضهم إلى دفع الإِتاوة إلى الفونسو، ورجع البعض إلى التعاون معه، وقطع بعضهم المدد عن الحامية التي تركها لهم يوسف، فأهاج هذا وغيره مسلمي الأندلس، فعقدوا الإجتماعات، وأعلنوا العصيان، وأفتى الفقهاء بخلع الملوك، واتهموهم بالخيانة والكفر، وعبر عن ذلك أحد الشعراء إذ قال:

ناد الملوك وقل لهم    ماذا الذي أحدثتم
أسلمتم الإسلام في    أسر العدا وقعدتم
وجب القيام عليكم    إذ بالنصارى قمتم
لا تنكروا شق العصا    فعصا النبي شققتم

كانت الأدلة توجب على يوسف أن يتدخل لإنقاذ الأندلس من فوضى ملوك الطوائف، لكنه أراد أن يجمع كل الأدلة حتى لا يتهم فيما يقبل عليه من أمر. لكن الكتب والفتاوى والوفود تصل إليه تطلب منه أن يسرع إلى إنقاذ البلاد لا من الصليبيين وحدهم بل إنقاذها في ملوك الطوائف أيضاً، وكان مما ورد إلى أمير المسلمين فتوى من الإِمام الغزالي أبى بكر الطّرْطُوشي، فاستجاب يوسف، وجهز جيشاً وعبر به إلى الأندلس في أوائل سنة 483هـ .

اتجه يوسف إلى طليطلة حيث أصبحت عاصمة القشتاليين، لكنها كانت من المناعة بحيث تركها يوسف لوقت آخر، ومال إلى جنوب الأندلس صوب غرناطة، فاستسلم أميرها عبد الله بن بلقين، ولم يستطع الفونسو أن يأتي إليه لينفذ معاهدته الدفاعية معه عام 483 هـ وفرح الناس فرحاً عظيماً باستيلاء المرابطين عليها.

ثم إن القائد العظيم أرسل إلى المعتمد بن عباد لكي يتكلم معه في شأن البلاد، ولكن بن عباد لم يستجب لأمير المسلمين، فاجتمع بقواده، ورسم لهم خطة الإستيلاء على بلاد الأندلس، وتخليصها من أيدي الملوك والأمراء، ثم غادر البلاد صائماً في رمضان عام 483 هـ بعد أن طلب من قائده سير بن أبى بكر أن يتوجه إلى اشبيلية. واتجه هو إلى مدينة سبته في عدوة المغرب يرقب الأحوال وتأتيه العيون بالأخبار ويجهز الجيوش، ويرسل الإمدادات والتوجيهات مترقباً النتائج التي سينتهي إليها مصير الخارجين على تعاليم الإِسلام وقواعده.

سار جيش المرابطين بقيادة أبو عبد الله محمد بن الحاج إلى قرطبة، وكان المعتمد بن عباد أخذها عنوة، وكان يتولى أمرها ابنه المأمون، وكانت المدينة تعرف الطريقة غير المشرفة، التي أخذت بها قرطبة، فتخلى عنه الناس، واستطاع المرابطون أن يتسلقوا أسوار المدينة وأن يقتلوا المأمون هو ووزيره، وأن يخضعوها لحكمهم. ثم اتجهوا إلى اشبيلية بقيادة سير بن أبى بكر، فحاصرها أربعة شهور، وفى أثناء ذلك أرسل الفونسو حملة إلى اشبيلية بقيادة البارهانس مؤلفة من عدة آلاف، واشتبكت مع المرابطين في أحواز اشبيلية، انتهت بانتصار المرابطين، بعد معركة جرح فيها قائد الفونسو جرحاً أدى به إلى الموت فيما بعد، ثم استطاع المرابطون أن يحدثوا ثلمة في السور عند باب الفرج قرب باب النصر، واستولوا على القصور وما بها، ولم يقتلوا المعتمد تنفيذاً لأمر أمير المسلمين.

وأصدر القائد المسلم العظيم سير بن أبى بكر أماناً للمعتمد في النفس والأهل والولد، وأرسل أسيراً إلى أغمات حتى لا يتصل بأعداء الإسلام وكان مع عائلته. ثم أخذ المرية من حاكمها معز الدولة أحمد بن المعتصم بن صمادح، وكذلك رنده وكان يحكمها الراضي بن المعتمد، وميرتله وكان يتولى أمرها المعتد بن المعتمد، وبطليوس وكان صاحبها ابن الأفطس قد تعاون وتحالف مع النصارى ضد أبناء جلدته فانتصروا عليه وعلى من عاونه، وقتل هو وأولاده جزاء خيانته، عام 488 هـ.

وكان آخر ما استولى عليه المرابطون(بُلَنْسِيَة) فقد أنفقوا جهوداً كبيرة لإِنقاذها من القمبيطور وعصابته من القشتاليين في حرب مثيرة[5] عام 495 هـ.

وبرجوع بُلَنْسِيَة خلصت البلاد الأندلسية ماعدا ولاية سرقسطة وكان يحكمها المستعين فأرسل إلى أمير المسلمين مظهراً المسالمة قائلاً:

"نحن بينكم وبين العدو سد لا يصلكم منه ضرر" وأبدى استعداده لتحصين البلاد، وضبط أمورها فوافق الأمير على ذلك.
وبهذا استقر الحكم للمسلمين، وأصبحت الأندلس دولة مسلمة موحدة.

في عام 494 أو قريباً من ذلك عبر يوسف عبوره الأخير، وكان قد عهد إلى القائد سير بن أبى بكر بأمور الأندلس، ولما كان من عادة يوسف إذا خرج من عاصمة البلاد أن يكون ناوياً الجهاد، فقد وجه جيشاً بقيادة محمد بن الحاج إلى جهة طليطلة، وكانت لا تزال عاصمة قشتالة فالتقى بالفونسو وجيشه قريباً منها، فانهزم جيش الفونسو متكبداً خسائر كبيرة.

ثم توجه يوسف إلى قرطبة عام 495 هـ، وأخذ البيعة لابنه على بن يوسف بن تاشفين لما يتمتع به من النباهة والحزم والتقوى، فقد كان مقتفياً سيرة والده. فووفق على ما طلب، وأشار على "عَلىّ أن ينشئ في الأندلس جيشاً مرابطياً ثابتاً. وأن يحسن السياسة والرفق والعناية بالأندلس" ورجع إلى عاصمة ملكه (مراكش ) وفي عام 499 هـ تزايدت العلة بأمير المسلمين وهو معظم مهوب لا يخلد إلى راتبه ولا يسكن إلى دعه.

وما زالت حالته تسوء، ويذبل جسمه شيئاً فشيئاً حتى وافه الأجل المحتوم، فتوفي رحمه الله سنة 500 هجرية بمراكش عن مائة عام كاملة، فكان لوفاته وقع عظيم في المغرب والأندلس والمشرق العربي. ورثاه العلماء والفقهاء والشعراء ومما قاله أبو بكر بن سوار الأشبوني:

اسمع أمير المسلمين وناصر الـ    دين الذي بنفوسنا نفديه
جوزيت خيراً من رعيتك التي    لم ترض فيها غير ما يرضيه
تصل الجهاد إلى الجهاد موفقا    حتم القضاء بكل ما تقضيه   
متواضعاً لله تظهر دينه    في كل ما تبديه أو تخفيه

ً
رحمه الله ورضي عنه.

 

__________________

[1]راجع إن شئت كتابين يوسف بن تاشفين وعبد الله بن ياسين..
[2]سبته ومليلية مدينتان عظيمتان بأرض المغرب لا يزالان تحت السيطرة الأسبانية.
[3]هي القبيلة البربرية التي ينتمي إليها يوسف وكانت معروفة بالشجاعة الفائقة في القتال.
[4]يطلقون كلمة السوداني على كل من هو من وسط أفريقية.
[5]راجع (بلنسية الشهيدة) ص 165 من كتابنا يوسف بن تاشفين.
 

حقوق النشر مفتوحة 1421 هـ 2000 م