A t h a g a f y
 is presented fully in Arabic and is best experienced using Internet Explorer

شخصية إسلامية حق علينا الإشادة بها

حتى لا ننسى هؤلاء العظماء ونبقي ذكرهم شامخ ، أفردنا هذا الباب لهم ، نهديه إلى قادة الأمة وكافة أفرادها وخاصة شبابها

نقتطف من مواقع الشبكة أو الكتب ، تاريخهم وقصة حياتهم

الأرشيف أو ما نشر من هذه السلسلة

زكي بدوي.. داعية الحوار

إسلام أون لاين

 

زكي بدوي

 

حتى اللحظة الأخيرة من حياته الحافلة بالعطاء، كان الدكتور محمد أبو الخير زكي البدوي يواصل العطاء؛ ففي أثناء إلقائه محاضرة عن التمويل الإسلامي في أحد فنادق لندن أصيب بنوبة قلبية ثم ما لبث بعد فترة وجيزة أن فارق الحياة في المستشفى، وذلك بتاريخ (24-12-1426هـ = 24-1-2006م) عن عمر ناهز 84 عاما.

ليثير نبأ وفاته الأسى عند جهات عديدة لم تقتصر على الأطراف الإسلامية في الغرب وفي الوطن العربي، بل شملت جهات غربية رسمية وأهلية وشعبية في أوربا وبريطانيا؛ نظرا لدوره الفاعل والمؤثر في الحوار الإسلامي الغربي.

بداية لعطاء

توصف رحلة زكي بدوي المولود عام 1922م بالطويلة والشاقة والمليئة بالعطاء والإنجازات، فقد بدأت عندما غادر مسقط رأسه في مصر إلى بريطانيا عام 1951م، ليدرس علم النفس، لكن حاز على شهادة الدكتوراه في الفكر الإسلامي المعاصر.

وكان قد عمل في أثناء رحلته أستاذا للتربية الإسلامية في جامعة أحمدو بيلو وعميدا لكلية الشريعة الإسلامية في نيجيريا، بعد أن عمل أستاذا للعربية والدراسات الإسلامية في جامعة كوالالمبور في ماليزيا وفي سنغافورة.

وكانت قضية "التمويل الإسلامي" أحد ميادين اهتمامه في بريطانيا؛ حيث قدم فيها خدمات جليلة، فقبل حوالي عقدين من الزمن، وبعد أن كان له دوره في المصرف الإسلامي في لوكسمبورج (1982-1985م) كان أول من فتح باب الحوار مع المصرف المركزي البريطاني لتكوين مؤسسات مالية تقوم على مراعاة الأحكام الإسلامية، ليطمئن إليها المسلمون في بريطانيا الذين يربو عددهم على مليونين ونصف المليون نسمة.

فأسس "دار المال الإسلامية"، وألقى الدروس حول المعاملات المالية الإسلامية في "معهد كرينفيلد البريطاني"، وكانت له سلسلة من البحوث العلمية في هذا الميدان، وقد انتشرت بعد ذلك المؤسسات المالية الإسلامية في بريطانيا ودول أوربية أخرى، كما عمدت بعض المصارف الغربية إلى تخصيص أقسام فيها للتعامل المصرفي الإسلامي.

مناصب وأدوار كبيرة

التسامح والدعوة إلى الحوار والاندماج الإسلامي في المجتمعات الأوربية من أبرز ما ميز حياة دكتور زكي بدوي، فمنذ استقراره في بريطانيا عام 1976م، حيث تولى التدريس في مركز دراسات الحج في لندن التابع لجامعة الملك عبد العزيز السعودية وأصبح مدير أول مركز ثقافي إسلامي في لندن، وإمام المسجد الكبير فيها، بدأ سيرة انفتاحه بتأكيد فتح أبواب المسجد للسنة والشيعة معا، وهو ما لم يكن من الأمور الهينة في أوربا قبيل الثورة الإيرانية.

ومنذ ذلك الحين أصبح اسمه يقترن بمعظم الأعمال الإسلامية المتميزة في بريطانيا، إلى جانب إسهامه في إقامة العديد من المراكز والمساجد الإسلامية، ليصبح رئيس المجلس الأعلى للأئمة والمساجد في بريطانيا منذ عام 1984م، ومؤسس الكلية الإسلامية عام 1986م وعميدها، كما سبق أن أسس مجلس الشريعة للتوفيق بين الأحكام الإسلامية والقوانين البريطانية ذات الصلة، والتي كان يُستشار فيها من جانب حكومة لندن قبل إصدارها.

كما شارك في تأسيس ملتقى الأديان السماوية الثلاثة، كما كان رئيس المنتدى العربي، ونائبا لرئيس المجلس العالمي للأديان، ورئيس مجلس أمناء منتدى مكافحة الخوف من الإسلام/ إسلاموفوبيا والعنصرية، ومستشارا للشئون الإسلامية لدى الأمير البريطاني تشارلز، وعضوا في اللجنة البريطانية للحوار بين الأديان، وعضوا في المجلس الاستشاري لبرنامج "الديمقراطية والإسلام" في جامعة ونستمنستر.

وكل هذه المهام لم تجعله ينقطع عن عقد المؤتمرات وإلقاء المحاضرات والخطب، وكان من نشاطاته موعظته الإسلامية الأسبوعية كل يوم خميس في إذاعة BBC البريطانية، ومقال الجمعة الأسبوعي في صحيفة العرب اليومية.

حوار وانفتاح

وتؤكد أعمال زكي بدوي انفتاحه الإسلامي الواسع النطاق، والذي انعكس في طيب علاقاته مع عموم المسلمين في بريطانيا، ومع أصحاب الديانات الأخرى على السواء، ودماثة أخلاقه التي جعلت نبأ وفاته يثير الأسى عند جهات عديدة مختلفة، فلم يقتصر ذلك على العديد من الأطراف الإسلامية في الغرب وفي مصر، بل شمل جهات أخرى كالحكومة البريطانية على لسان وزير الخارجية سترو، ورئيس الوزراء بلير والأمير تشارلز، وشارك في الإعراب عن الأسى أقطاب الكنائس المسيحية والروابط اليهودية، علاوة على عدد من المنظمات غير الحكومية.

وكان من كلماته التي أسست لتعامل المسلمين مع الغرب بشكل أكثر عمقا قوله: "من الخطأ أن نقول إن الغرب كله يعادي الإسلام والمسلمين، أو إن رجال الدين المسيحي واليهودي كلهم يعادون الإسلام والمسلمين؛ لأننا بهذا نخلق أعداء جددا، وأنا أرفض التعميم في كل شيء، ولا بد من الدقة والعقلانية في التعامل مع الآخرين للاستفادة من إيجابياتهم وتهميش سلبياتهم".

في إطار هذه الدعوة كان رفضه لسائر مظاهر العداء، دون أن يفقد تأكيده لعدالة قضايا الإسلام والمسلمين المعاصرة، لا سيما في نطاق قضية فلسطين، وهذا كان سببا لإدراج اسمه في لائحة الممنوعين من دخول الأراضي الأمريكية.

جوائز وتكريمات

ويتبدى تنوع الميادين التي تحرك فيها "زكي بدوي" عند الاطلاع على بعض ما وجده من تكريم تعددت مصادره ومناسباته مع مرور السنين؛ أولها عند حصوله على الشهادة العالمية (الماجستير) من جامعة الأزهر عام 1947م، حيث درس فقه الدين واللغة والتفسير، فتلقى جائزة التفوق من جانب الملك فاروق في مصر آنذاك.

وكان من محطات تكريمه جائزة رابطة علماء الاجتماعيات المسلمين في بريطانيا، كما كان منها إقدام الملكة البريطانية إليزابيث على إطلاق لقب "سير" الفروسي التقليدي عليه بصورة تشريفية استثنائية؛ إذ قل ما يُمنح اللقب لغير حاملي الجنسية البريطانية، بينما كان دكتور زكي بدوي حريصا على الاحتفاظ بجنسيته المصرية، كما يروي عنه صديقه د.عبد الوهاب الأفندي.

آراء وانتقادات

وكان هناك ناقدون لمواقفه وآرائه في أوساط المسلمين في أوربا وخارجها، وساهم في ذلك صدور فتاوى على لسانه أو عن طريق الكلية الإسلامية التي يرأسها؛ إذ وجدت الرفض من جانب كثير من عامة المسلمين في بريطانيا نفسها بالإضافة إلى جمهور العلماء.

من ذلك إباحة تناول مشروبات حملت اسم "لوكوزاد" و"ريبنا" التي انتشر بين المسلمين أن فيها آثارا من الكحول ومن مكونات الخنزير، فكان من أقواله المختلف عليها بهذا الصدد: "لا أجد حرمةً في تناول ريبنا ولوكوزاد اللذين يحتويان على آثار من إيثيل الكحول ومكونات حيوانية دون أن تحمل الخواص الأصلية أو تغير طعم المنتج أو رائحته أو لونه".

على أن الفتوى التي أثارت جدلا أكبر كانت تلك التي صدرت عنه في أعقاب تفجيرات لندن والخشية من انتشار موجة من الممارسات العدائية تستهدف المسلمات المحجبات في بريطانيا، فقد رأى أن للمسلمة أن ترفع الحجاب إذا غلب على ظنها أنها تتعرض للخطر؛ وذلك رغم معارضته القوية للقانون الفرنسي الصادر في مارس 2004م الذي حظر ارتداء الحجاب في المدارس الحكومية.

كما عُرف عن بدوي موقفه الإيجابي المنفتح على مكانة المرأة في الإسلام عموما، فكان شديد المعارضة لحرمانها من حقوقها عموما والسياسية منها على مختلف الأصعدة، ناقدا للفتاوى القائلة بتحريم ولايتها أو ترشيحها وانتخابها.

كما يتصل بذلك أخذه بمبدأ التيسير في الفتاوى، فكان مما ركز عليه ووجد انتقادَ بعض العلماء تأكيده ضرورة التدرج في الدعوة إلى الإسلام، مستندا إلى التدرج في الدعوة إليه في العهد النبوي، فينبغي -كما يقول- البدء بدعوة المسلم حديث الإسلام إلى الإيمان والأخلاق، ثم إلى تطبيق الأحكام الشرعية التفصيلية تدريجيا.

"إسلام بريطاني"

على أن حملات العداء من جانب المتشددين التي تعود في الدرجة الأولى إلى إدانته "الإرهاب" على وجه التحديد، اقترنت أيضا بنقد دكتور زكي بدوي لأوضاع المسلمين الوافدين إلى بريطانيا وأوربا عموما.

إنما يمكن القول: إنه في هذا الميدان بالذات سبق كثيرين سواه يدعون في الوقت الحاضر بإلحاح إلى الاندماج الإسلامي في المجتمعات الأوربية، وربما كان من أوائل من طرحوا مصطلح "إسلام بريطاني" للتعبير عن توجهاته وأفكاره، ولم يكن ذلك يعني لديه "إسلاما آخر"، كما يقول بعض الناقدين.

فقد كان مضمون دعوته قائما على ضرورة اندماج العرب والمسلمين في المجتمعات التي يعيشون فيها؛ حيث يجب تجاوز المخاوف المرضية المنتشرة تجاه الإسلام.

وانطلاقا من ضرورة الاندماج كان ينتقد انشغال المسلمين في الدول الأوربية عن الاهتمام بالمشكلات الحياتية التي يواجهونها مباشرة في مجتمعاتهم الجديدة، وينتقد الخطباء "الوافدين" العاجزين عن الخطابة بلغة البلد الأم الذي يعيشون فيه، وعن معالجة القضايا التي يواجهها المسلمون مع الفئات الأخرى؛ وهو ما سعى لتجاوزه من خلال تخريج العديد من الأئمة والخطباء لمساجد بريطانيا من الكلية الإسلامية.

وتقوم نظرته إلى "إسلام بريطاني" على أن للإسلام خصائصه التي جعلته قادرا على أن ينتشر في أنحاء العالم دون أن يفقد الباكستاني أو التركي أو سوى ذلك من الأقوام انتماءاتهم.

ولا ريب في أن دعوته إلى الاندماج ساهمت فيما نرصده من أن مظاهره -جنبا إلى جنب مع تميز المسلمين- قطعت في بريطانيا مراحل أكبر منها في بلدان أوربية أخرى، لا تزال تبحث عن صيغة للاندماج دون ذوبان، كما ساهمت أيضا في أن تجعل من التسامح والحوار علامة مميزة لعلاقة المسلمين بسواهم.

آثار حية

لم يخلف إمام مسجد لندن، شيخ مجلس الشريعة، والداعية إلى الحوار والتسامح كثيرا من الكتب، ولعل وفرة نشاطاته وتحركاته ومحاضراته لم تترك له ما يكفي من الوقت للتأليف.

والجدير بالتنويه هنا ضرورة التمييز بين أحمد زكي بدوي، الأستاذ في معهد العلوم الاجتماعية بكلية الآداب في جامعة الإسكندرية، وصاحب عدد من المؤلفات في صيغة "معاجم"، ومحمد أبو الخير زكي بدوي، الذي له بعض المؤلفات بالإنجليزية، أبرزها "المصلحون في مصر: دراسة نقدية للأفغاني وعبده ورضا"، وآخرها كتاب بعنوان "الجهاد من القرآن إلى ابن لادن"، بمشاركة ريتشارد بوني وبيلجريف ماكميليان.

إلا أن زكي بدوي ترك من بعده آثارا واسعة النطاق وبالغة الأهمية في حياة المسلمين في بريطانيا وأوربا، وعلاقاتهم بالمجتمعات التي يعيشون فيها، كما ترك أثرا طيبا لدى غير المسلمين فيها، قد يجد ترجمته في الأيام القادمة إلى صيغة أفضل للتعايش القائم على وجود الإسلام في الغرب على قاعدتي التميز والاندماج معا، وبما يساهم في تنمية حجم العطاء الذي يقدمه المسلمون على هذا الطريق.

 

 

حقوق النشر مفتوحة 1421 هـ 2000 م