A t h a g a f y
 is presented fully in Arabic and is best experienced using Internet Explorer

شخصية إسلامية حق علينا الإشادة بها

حتى لا ننسى هؤلاء العظماء ونبقي ذكرهم شامخ ، أفردنا هذا الباب لهم ، نهديه إلى قادة الأمة وكافة أفرادها وخاصة شبابها

نقتطف من مواقع الشبكة أو الكتب ، تاريخهم وقصة حياتهم

الأرشيف أو ما نشر من هذه السلسلة

محمد أسد

 

 

هكذا أسلم المفكر محمد أسد
(ليوبولد فايس)

 صيد الفوائد

 

د.عبد المعطي الدالاتي

 
رُبَّ سارٍ والسُّحْبُ قد لَفَّتِ النّجم *** فحـار الســـارونَ عبر القفــارِ
سَــفَرَ الفجــرُ فاســتبانَ خُـــطاه *** فــرآها اهتـــدتْ بــلا إبصـارِ

- الشاعرعمرالأميري –

"ليوبولد فايس " نمساوي يهودي الأصل ، درس الفلسفة والفن في جامعة فيينا ثم اتجه للصحافة فبرع فيها ، وغدا مراسلاً صحفياً في الشرق العربي والإسلامي ، فأقام مدة في القدس .
ثم زار القاهرة فالتقى بالإمام مصطفى المراغي ، فحاوره حول الأديان ، فانتهى إلى الاعتقاد بأن "الروح والجسد في الإسلام هما بمنزلة وجهين توأمين للحياة الإنسانية التي أبدعها الله" ثم بدأ بتعلم اللغة العربية في أروقة الأزهر ، وهو لم يزل بعدُ يهودياً .

قصتــه مع الإســلام
كان ليوبولد فايس رجل التساؤل والبحث عن الحقيقة ، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المشعّة ، وفي يوم راح يحاور بعض المسلمين منافحاً عن الإسلام ، ومحمّلاً المسلمين تبعة تخلفهم عن الشهود الحضاري ، لأنهم تخلّفوا عن الإسلام ففاجأه أحد المسلمين الطيبين بهذا التعليق: "فأنت مسلم ، ولكنك لا تدري !" .
فضحك فايس قائلاً : "لست مسلماً ، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيّعونه"!! .
ولكن هذه الكلمة هزّت أعماقه ، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها ، وظلت تلاحقه من بعد حتى أثبت القدر صدق قائلها الطيب ، حين نطق ( محمد أسد ) بالشهادتين(1).

هذه الحادثة تعلّمنا ألا نستهين بخيرية وبطاقات أي إنسان ، فنحن لا ندري من هو الإنسان الذي سيخاطبنا القدر به ؟!
ومن منا لم يُحدِث انعطافاً في حياته كلمةٌ أو موقفٌ أو لقاء ؟!
من منا يستطيع أن يقاوم في نفسه شجاعة الأخذ من الكرماء ؟!
لقد جاء إسلام محمد أسد رداً حاسماً على اليأس والضياع ، وإعلاناً مقنعاً على قدرة الإسلام على استقطاب الحائرين الذين يبحثون عن الحقيقة …

يقول الدكتور عبد الوهاب عزام : "إنه استجابةُ نفس طيبة لمكارم الأخلاق ومحاسن الآداب ، وإعجابُ قلب كبير بالفطرة السليمة ، وإدراك عقل منير للحق والخير والجمال"(2).

قام محمد أسد بعد إسلامه بأداء فريضة الحج ، كما شارك في الجهاد مع عمر المختار ، ثم سافر إلى باكستان فالتقى شاعر الإسلام محمد إقبال ، ثم عمل رئيساً لمعهد الدراسات الإسلامية في لاهور حيث قام بتأليف الكتب التي رفعته إلى مصاف ألمع المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث .

وأشهر ما كتب محمد أسد كتابه الفذ (الإسلام على مفترق الطرق) ..
وله كتاب (الطريق إلى مكة) ، كما قام بترجمة معاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية .
لقد كان محمد أسد طرازاً نادراً من الرحّالة في عالم الأرض ، وفي عالم الفكر والروح …

يقول محمد أسد :
"جاءني الإسلام متسللاً كالنور إلى قلبي المظلم ، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق الذي لا يمكن وصفه ، فالإسلام بناء تام الصنعة ، وكل أجزائه قد صيغت ليُتمَّ بعضها بعضاً… ولا يزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلّفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر ، لذلك تجمّعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد"(3).

ويقول : "إن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة … إذ يهتم اهتماماً واحداً بالدنيا والآخرة ، وبالنفس والجسد ، وبالفرد والمجتمع ، ويهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من طاقات ، إنه ليس سبيلاً من السبل ، ولكنه السبيل الوحيد ، وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هادياً من الهداة ولكنه الهادي. .

"إن الرجل الذي أُرسل رحمة للعالمين ، إذا أبينا عليه هُداه ‘ فإن هذا لا يعني شيئاً أقل من أننا نأبى رحمة الله !"(4).

"الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة .. ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده ، يعلن أن الكمال الفردي ممكن في الحياة الدنيا ، ولا يؤجَّل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية ، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حدٍ من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة ، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة .. وفي الإسلام لا يحق لك فحسب ، بل يجب عليك أيضاً أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة .. إن من واجب المسلم أن يستخرج من نفسه أحسن ما فيها كيما يُشرّف هذه الحياة التي أنعم الله عليه بها ، وكيما يساعد إخوانه من بني آدم في جهودهم الروحية والاجتماعية والمادية .
الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا ، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو"(5).

ويصف محمد أسد إفاضته مع الحجيج من عرفات فيقول : "ها نحن أولاء نمضي عجلين ، مستسلمين لغبطة لا حد لها ، والريح تعصف في أذني صيحة الفرح . لن تعود بعدُ غريباً ، لن تعود … إخواني عن اليمين ، وإخواني عن الشمال ، ليس بينهم من أعرفه ، وليس فيهم من غريب ! فنحن في التيار المُصطخِب جسد واحد ، يسير إلى غاية واحدة ، وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتقد في قلوب أصحاب رسول الله … يعلم إخواني أنهم قصّروا ، ولكنهم لا يزالون على العهد ، سينجزون الوعد(6)".

"لبيك اللهم لبيك" لم أعد أسمع شيئاً سوى صوت "لبيك" في عقلي ، ودويّ الدم وهديره في أذني … وتقدمت أطوف ، وأصبحت جزءاً من سيل دائري! لقد أصبحت جزءاً من حركة في مدار ! وتلاشت الدقائق .. وهدأ الزمن نفسه .. وكان هذا المكان محور العالم(7)".

ويسلط محمد أسد الضوء على سبيل النجاة من واقعنا المتردي فيكتب :"ليس لنا للنجاة من عار هذا الانحطاط الذي نحن فيه سوى مخرج واحد ؛ علينا أن نُشعر أنفسنا بهذا العار ، بجعله نصب أعيننا ليل نهار ! وأن نَطعم مرارته …
ويجب علينا أن ننفض عن أنفسنا روح الاعتذار الذي هو اسم آخر للانهزام العقلي فينا ، وبدلاً من أن نُخضع الإسلام باستخذاء للمقاييس العقلية الغربية ، يجب أن ننظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي نحكم به على العالم ..
أما الخطوة الثانية فهي أن نعمل بسنة نبينا على وعي وعزيمة…"(8) .

وأخيراً يوصينا محمد أسد بهذه الوصية :"يجب على المسلم أن يعيش عالي الرأس ، ويجب عليه أن يتحقّق أنه متميز ، وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك ، وأن يعلن هذا التميز بشجاعة بدلاً من أن يعتذر عنه !"(9).

* * *
" من كتاب " ربحت محمدا ولم أخسر المسيح "

--------------------
(1) (الإسلام على مفترق الطرق) محمد أسد ص(12)
(2) (مجلة العربي) العدد 497 – مقال د. علي القريشي .
(3) من مقدمة كتابه (الإسلام على مفترق الطرق) .
(4) (الإسلام على مفترق الطرق) محمد أسد ص(102-103) .
(5) نفسه  ص(19-25) .
(6) (الطريق إلى الإسلام) محمد أسد ص (7) .
(7)  نفسه ص (296-308) .
(8)  (الإسلام على مفترق الطرق) ص (108 – 109) .
(9)  نفسه ص (78) .


 

تصور أجزاء منه داخل السعودية
شركة نمساوية تنتج فيلما وثائقيا عن المستشرق محمد أسد

محمد أسد

جريدة الوطن

أبها: عيسى سوادي
تعتزم شركة ميشف النمساوية للإنتاج إنتاج فيلم وثائقي عن المستشرق النمساوي ليوبولد فايس (محمد أسد) بعنوان "رحلة الأسد"، وتم مؤخرا البدء في تنفيذ الفيلم ضمن سلسلة من الأفلام الوثائقية التي تبرز شخصيات نمساوية لها رصيد تاريخي كبير.
وسيخصص في الفيلم الوثائقي جزء للحديث عن الإسلام عامة وعن المملكة العربية السعودية بشكل خاص، حيث عاش أسد فترة طويلة فيها، وذلك من خلال تصوير لقطات من الفيلم داخل السعودية، من خلال تتبع المناطق التي أقام أسد فيها خلال حياته المليئة بالتجارب.
وولد محمد أسد في إقليم غاليسيا في بولندا في شهر يوليو، كان أبواه يهوديين، وكان اسمه ليوبولد فايس. بدأ يتدرب ليصبح كاهنا مثل جده، ثم اشتغل بعد تخرجه من الجامعة في فيينا بالصحافة. وسافر إلى القدس بدعوة من خاله، حيث تعرف على الحركة الصهيونية ورفضها، بدأت من هناك رحلة عشقه للإسلام وعالمه، وبدءاً باستكشافه كزائر، ثم كصحفي، وانتهت باعتناقه الإسلام في الجزيرة العربية عام 1926، ومن ثم انطلقت ملحمة تفاعل عقل من أبرز عقول القرن العشرين مع الإسلام، وقد سجل محمد أسد وقائع هذه الملحمة في كتابه "الطريق إلى مكة" (صدر عام 1953) الذي يعتبر كما يقول بعض النقاد من أروع الأعمال الأدبية والفكرية التي جاد بها القرن الماضي.

مع السعودية
أحب أسد جزيرة العرب وأهلها واعتبرها موطنه، كان من أتباع الملك عبد العزيز وبادله الود، وظل من أخلص خلصائه زماناً، واتصلت مودته بأولاده من بعده.
وقد كتب أسد كثيرا عن الملك عبدالعزيز ولكن أشهر ماكتبه هو عن التأثير البالغ للملك عبدالعزيز في إسلامه ووصفه بأنه ملك عادل له رسالته اتبع أحكامه من الدين قوي عزيمة في سياسته التي بها أقام ملكا ووحد أمة بحسن كياسة وسياسة لا يكذب ولا يتلون ولا يتقلب".
وكان محمد أسد قد أمضى بعد إسلامه خمس سنوات في المدينة المنورة والتقى بالعديد من الشعوب الإسلاميـة فـي مواسـم الحج.
وكان أسد راصدا جيدا للحركات الدينية والسياسية في السعودية حيث يقول عن حركة الإخوان "الإخوان كثيراً ما كان يستحوذ عليهم شعور مغال فيه..إن كثيراً من مفاهيمهم كانت بدائية وأن حماستهم الدينية كثيراً ما قاربت الغلو".

آراؤه ومواقفه السياسية
تفاعل أسد مع كل قضايا الأمة، ورافق الشهيد عمر المختار وصحبه في جهاده ضد الإيطاليين. ثم انتقل بعد ذلك إلى الهند، حيث لقي العلامة محمد إقبال، وقد أقنعه إقبال ليبقى حتى يساعد في إذكاء نهضة الإسلام في الهند، ومشروع إقامة دولة باكستان.
بعد الحرب وقيام دولة باكستان انتقل إلى هناك واكتسب جنسية الدولة الجديدة، ثم أصبح مدير قسم الشرق الأوسط في وزارة الخارجية بها، فمندوبها الدائم في الأمم المتحدة في نيويورك وفي عام 1953، استقال من منصبه بعدما أعلن أنه اطمأن إلى أن الدولة الجديدة قامت على قدميها.
رفض إسرائيل وحاربها، وظل حتى آخر أيامه يكتب ليثبت بمنطلق العقل أن المسلمين هم أولى الناس بالقدس ورعايتها وعمارة مساجدها ومقدساتها.
وكان الخميني في نظره كسابقه في الحكم، شاه إيران وبقدر ما كانت انتقاداته لدولة إسرائيل كثيرة، بقدر ما كان احترامه كبيرا للثقافة والديانة اليهودية التي كانت لا تقل عالمية في نظره عن الإسلام إلا بقليل.
وبعد بضع سنوات قضاها في سويسرا أقام محمد أسد في طنجة حيث واصل نشاط التأليف والنشر والتعبير عن مواقفه من الأحداث العالمية، لكنه ظل ينتظر التجديد المرتجى داخل العالم الإسلامي دون أن يراه.
كان أسد يمضي مراسلاته الخاصة مع أفراد عائلته في بعض الأحيان باسم "بولدي" كما فيما مضى، وخلال بعض لقاءاته بابنه طلال في لندن كان يحب أن يروي له نكاتا بلهجة يهود شرق أوروبا.

من اليهودية إلى الإسلام
كانت الديانة الأصلية ليوبولد فايس (محمد أسد) وأبويه هي اليهودية وكان أسد شخصية متسائلة تبحث دائما عن الحقيقة، وكان يشعر بالأسى والدهشة لظاهرة الفجوة الكبيرة بين واقع المسلمين المتخلف وبين حقائق دينهم المشعة، وفي يوم راح يحاور بعض المسلمين منافحا عن الإسلام، ومحملا المسلمين تبعة تخلفهم عن الشهود الحضاري، لأنهم تخلفوا عن الإسلام ففاجأه أحد المسلمين الطيبين بهذا التعليق: " فأنت مسلم، ولكنك لا تدري!"
فضحك فايس قائلاً:" لست مسلماً، ولكنني شاهدت في الإسلام من الجمال ما يجعلني أغضب عندما أرى أتباعه يضيعونه!"
ولكن هذه الكلمة هزت أعماقه، ووضعته أمام نفسه التي يهرب منها، وظلت تلاحقه من بعد حتى أثبت القدر صدق قائلها، حين نطق (محمد أسد ) بالشهادتين.
قام محمد أسد بعد إسلامه بأداء فريضة الحج، كما شارك في الجهاد مع عمر المختار، ثم سافر إلى باكستان فالتقى شاعر الإسلام محمد إقبال، ثم عمل رئيساً لمعهد الدراسات الإسلامية في لاهور حيث قام بتأليف الكتب التي رفعته إلى مصاف ألمع المفكرين الإسلاميين في العصر الحديث.

مؤلفاته
كان أول كتبه عن الإسلام بعنوان (الإسلام على مفترق الطرق) الذي نشر سنة 1934، ونال شعبية واسعة. ولا ريب أن أعظم ما ترك أسد من أثر هو تفسيره للقرآن الكريم وترجمته لمعاني القرآن الكريم وصحيح البخاري إلى اللغة الإنجليزية.. لكن كتابه الأوسع أثرا هو "الطريق إلى مكة".
وكانت آخر المشاريع الكبرى لمحمد أسد هي ترجمة إنجليزية جديدة للقرآن قد حظيت في البداية بدعم الرابطة الإسلامية العالمية، لكنها سرعان ما قابلت انتقادات بسبب تفسيراتها الحرة، بعد ذلك نشرت في السعودية عام 1974.
وفي عام 1964، شرع في أضخم مشروع في حياته، وهو مشروع ترجمة معاني القرآن الكريم، وأمضى سبعة عشر عاماً وهو يعد الترجمة، فكانت النتيجة صدور واحدة من أهم ترجمات معاني القرآن الكريم إلى الإنجليزية.
وكان أسد ألف أيضاً "مبادئ الدولة في الإسلام" (1974) و"شريعتنا هذه" (1987) وهما يتناولان نظرية الحكم في الإسلام.

من أقواله
يقول محمد أسد في أحد كتبه "جاءني الإسلام متسللاً كالنور إلى قلبي المظلم، ولكن ليبقى فيه إلى الأبد والذي جذبني إلى الإسلام هو ذلك البناء العظيم المتكامل المتناسق الذي لا يمكن وصفه. فالإسلام بناء تام الصنعة، وكل أجزائه قد صيغت ليتم بعضها بعضاً..ولايزال الإسلام بالرغم من جميع العقبات التي خلفها تأخر المسلمين أعظم قوة ناهضة بالهمم عرفها البشر، لذلك تجمعت رغباتي حول مسألة بعثه من جديد".
ويضيف "إن الإسلام يحمل الإنسان على توحيد جميع نواحي الحياة..إذ يهتم اهتماماً واحداً بالدنيا والآخرة، وبالنفس والجسد، وبالفرد والجميع، ويهدينا إلى أن نستفيد أحسن الاستفادة مما فينا من طاقات، إنه ليس سبيلاً من السبل، ولكنه السبيل الوحيد، وإن الرجل الذي جاء بهذه التعاليم ليس هادياً من الهداة ولكنه الهادي". إن الرجل الذي أرسل رحمة للعالمين، إذا أبينا عليه هداه فإن هذا لا يعني شيئاً أقل من أننا نأبى رحمة الله".
ويقول في كتاب آخر "الإسلام ليس فلسفة ولكنه منهاج حياة..ومن بين سائر الأديان نرى الإسلام وحده، يعلن أن الكمال الفردي مكمن الحياة الدنيا، ولا يؤجل هذا الكمال إلى ما بعد إماتة الشهوات الجسدية، ومن بين سائر الأديان نجد الإسلام وحده يتيح للإنسان أن يتمتع بحياته إلى أقصى حد من غير أن يضيع اتجاهه الروحي دقيقة واحدة، فالإسلام لا يجعل احتقار الدنيا شرطاً للنجاة في الآخرة، وفي الإسلام لا يحق لك فحسب، بل يجب عليك أيضاً أن تفيد من حياتك إلى أقصى حدود الإفادة.. إن من واجب المسلم أن يستخرج من نفسه أحسن ما فيها كيما يشرف هذه الحياة التي أنعم الله عليه بها، وكيما يساعد إخوانه من بني آدم في جهودهم الروحية والاجتماعية والمادية، الإسلام يؤكد في إعلانه أن الإنسان يستطيع بلوغ الكمال في حياته الدنيا، وذلك بأن يستفيد استفادة تامة من وجوه الإمكان الدنيوي في حياته هو".
ويصف محمد أسد إفاضته مع الحجيج من عرفات فيقول:"هانحن أولاء نمضي عجلين، مستسلمين لغبطة لا حد لها، والريح تعصف في أذني صيحة الفرح. لن تعود بعد غربياً، لن تعود، إخواني عن اليمين، وإخواني عن الشمال، ليس بينهم من أعرفه، وليس فيهم من غريب ! فنحن في التيار المصطخب جسد واحد، يسير إلى غاية واحدة، وفي قلوبنا جذوة من الإيمان الذي اتقد في قلوب أصحاب رسول الله..يعلم إخواني أنهم قصروا، ولكنهم لا يزالون على العهد،سينجزون الوعد".
"لبيك اللهم لبيك" لم أعد أسمع شيئاً سوى صوت "لبيك" في عقلي،ودوي الدم وهديره في أذني.. وتقدمت أطوف، وأصبحت جزءاً من سبيل دائري! لقد أصبحت جزءاً من حركة في مدار! وتلاشت الدقائق.. وهدأ الزمن نفسه وكان هذا المكان محور العالم".
ويسلط محمد أسد الضوء على سبيل النجاة من الواقع المتردي فيكتب"ليس لنا للنجاة من عار هذا الانحطاط الذي نحن فيه سوى مخرج واحد؛ علينا أن نشعر أنفسنا بهذا العار، بجعله نصب أعيننا ليل نهار !وأن نطعم مرارته.. ويجب علينا أن ننفض عن أنفسنا روح الاعتذار الذي هو اسم آخر للانهزام العقلي فينا، وبدلاً من أن نخضع الإسلام باستخدام للمقاييس العقلية الغربية،يجب أن ننظر إلى الإسلام على أنه المقياس الذي نحكم به على العالم..أما الخطوة الثانية فهي أن نعمل بسنة نبينا على وعي وعزيمة".
وأخيراً يوصي محمد أسد بهذه الوصية في أحد كتبه "يجب على المسلم أن يعيش عالي الرأس، ويجب عليه أن يتحقق أنه متميز،وأن يكون عظيم الفخر لأنه كذلك،وأن يعلن هذا التميز بشجاعة بدلاً من أن يعتذر عنه".
كان محمد أسد يعد الجزء الثاني من مذكراته ليحكي فيها طرفاً آخر من حياته العامرة، وكان العنوان الذي اختاره للكتاب هو: "عودة القلب إلى وطنه". إلا أن الأجل سبقه وتوفاه الله سنة 1992 ويدفن في المقبرة الإسلامية بغرناطة.

 الطريق إلى مكة (1-2)

مجلة المعرفة

محمد الصاوي

العمل الدبلوماسي مرتبط في أذهاننا بقوة الشخصية، والتناول العقلاني للأمور، والتفتح الضروري على الآخرين وثقافاتهم، والتحلي بالقدر الأكبر من الموضوعية والنزاهة في المواقف الفكرية على الأقل. ولعل ذلك يفسر ـ إلى حد ما ـ ما يمكن اعتباره ظاهرة «اعتناق دبلوماسيين غربيين للإسلام». ففي السنوات الأخيرة اعتنق الإسلام عدد غير قليل من الدبلوماسيين والأكاديميين. كما اعتنقه أشخاص معروفون بميلهم الدائم للترحال والاختلاط بأبناء الثقافات الأخرى. والجامع بين هؤلاء وأولئك ميل إلى الاستغراق في القضايا الأخلاقية والسلوكية والجمالية، والانشغال بقضية الحضارة، وإن شئت فقل قضية «الإنسان »: من أين؟ وإلى أين؟ ولماذا؟

إن كتابات الغربيين المهتدين كتابات موجهة في الأساس إلى القارئ الغربي، يكتب مراد هوفمان مثلاً: «إلى رفاقي المسلمين في الغرب». و كتب محمد أسد : «كم من الرجال يمكنهم أن يتحدثوا إلى الغربيين عن الإسلام مثلما أتحدث أنا». لكن هذه الكتابات ذات نفع جم لكل أحد، بما تحمله من روح ناقدة تحليلية، يجدر بكل عاقل أن يتحلى بها. و إن كان علينا ألا نغفل أن الأصل العظيم : «كلٌّ يؤخذ من قوله و يُرَدّ إلا المعصوم صلى الله عليه وسلم». وبعبارة محمد أسد نفسه :«إن كل رأي إنساني محدود بالزمن، و قابل للخطأ». والعاقل هو من يقبل الحق ممن جاء به، صغيرًا أو كبيرًا، ولو كان بغيضًا بعيدًا. و يرد الباطل على من جاء به، صغيرًا أو كبيرًا، ولو كان حبيبًا قريبًا. فالإسلام أعظم شموخًا وأبقى من كل ما قيل عنه، و نحن لا نستشهد على عظمة الإسلام بأقوال أحد. لكن يدفعنا إلى ذلك نفر من بني قومنا، لا تروق لهم الفكرة إلا إذا جاءتهم من وراء البحار، فلا ينصتون لقولٍ ما لم ينطق به كل أعجمي الوجه واليد واللسان. فإذا ما حدثت الواحد منهم عن أبي حنيفة اسود وجهه، وإذا نقلت عن الماوردي صعّر خده، وإذا استشهدت بقول الغزالي نأى بجانبه، و إذا أحلته إلى ابن تيمية ولى مستكبرًا، و إذا ذكرت الله وحده اشمئز قلبه. وبرغم هذا فلا يخلو زمان من ناطق بالحق، مقرّ به، خاضع له، داع إليه.

والكتب التي تستحق القراءة ليست بالضرورة هي الأوسع انتشارًا، أو الأكثر مبيعًا. ومن جهة أخرى فالكتب التي تستحق الترجمة ليست بالضرورة الأحدث صدورًا. و كتب محمد أسد هي من هذا الصنف الجدير بالقراءة والترجمة. كما أنها بعبارة هوفمان:«من الكلاسيكيات الأصيلة». لكنها كلاسيكيات لا تموت، إن جاز مثل هذا الوصف، لأن محمد أسد كان فيها بعيد النظر، مصيبًا في تنبؤاته بما حل بالعالم الإسلامي، فقد كان الرجل يؤمن بحقيقة التدين والالتزام بأوامر الله ونواهيه. على العكس مما آلت إليه حال بعض المتحذلقين الذين يفتنون الناس بمثل قول أحدهم: «حقًا، إني لا أمارس الشعائر الإسلامية، ولكني مؤمن من أعماق قلبي، وإيماني (الطبيعي) هذا أفضل من الصلاة والصوم خمس مرات يوميًا»! هكذا.

لقد جاهد محمد أسد لكي يجعل من القرآن الكريم وسنة النبي الأعظم صلى الله عليه وسلم أسلوب حياة، وتحقيقًا لجوهر الإسلام. أو بعبارة مراد هوفمان: «ليس هناك من سبيل للدعوة إلى الإسلام أفضل من أن نحياه». أي أن أفضل وسيلة لنشر الإسلام هي ممارسته. وهوفمان ـ الدبلوماسي الألماني المهتدي ـ هو القائل: «ما من أحد استطاع خلال المئة سنة الأخيرة أن يبز محمد أسد في إسهامه العظيم في شرح الإسلام و نشره في الغرب». وبعدما التقى هوفمان صنوه وتوأم روحه في لشبونة 1985م، وَصَف هذا السيد الرقيق الصوت ذا اللحية الصغيرة بأنه يجمع إلى إسهامه الهائل في إحياء الإسلام تواضعًا جمًا وطيبة مفرطة.

بعد شهر واحد من واقعة سبتمبر 2001م، أجريت مقابلة مع البروفيسور «طلال محمد أسد» في مكتبه بقسم الأنثروبولوجي في جامعة نيويورك. وكانت وسائل الإعلام كلها مستغرقة في إثارة سؤال واحد: «لماذا يكرهون أمريكا؟» ووضعت المناقشات كلها في إطار ما سموه: «صراع الحضارات». وما كان من شخص أبعد عن فكرة صراع الحضارات من طلال أسد، الذي راح يغوص في ذكريات طفولته، وهو الذي ولد بالمدينة المنورة، و شب عن الطوق في الهند، وترعرع في الباكستان، وتعلم في أكسفورد، و يقيم في مانهاتن بنيويورك. إنه يتذكر حين كان في التاسعة، يتمشى مع والده محمد أسد، خلف سياج من الأسلاك الشائكة، في معسكر الاعتقال الذي احتجزتهم فيه السلطات البريطانية في بومباي. ولم يكن في المعسكر المكتظ باليهود الفارين سوى ثلاثة مسلمين: محمد أسد وزوجته وابنهما طلال.

لم يسأل مروجو فكرة صراع الحضارات أنفسهم: «ألم تعتقل بريطانيا اليهود في الهند بسبب جنسيتهم الألمانية؟ ألم تكن ألمانيا من جانبها تضطهد أقارب هؤلاء اليهود في ألمانيا ـ في الظاهر على الأقل ـ بسبب يهوديتهم؟ ألم يكن محمد أسد قلقًا على أبيه و أخته اللذين بقيا في النمسا على يهوديتهم؟ فهل يسمى ما حدث ويحدث صراع حضارات؟!

وفي جولة المشي المسائية اليومية مع طلال كان الوالد يقص عليه سيرة العمر، من الميلاد في Lvov والنشأة في فيينا وبرلين ثم زيارته الأولى لبيت المقدس التي غيرت حياته، ثم رحلاته المتواصلة التي تمخضت عن اعتناقه الإسلام، ليصير اسمه محمدًا. و يذكر طلال بكل إجلال كتاب والده :«الطريق إلى مكة»، فيقول: «إنها رحلته من اليهودية إلى الإسلام». ويضيف: «بينما لم يكن محمد أسد يخفي عن أحد أن له جذورًا يهودية، فلم يكن يخفي على جيرانه ومعارفه اليهود أنه قد اختار الإسلام دينًا». محمد أسد المتضلع في دراسة التوراة والتلمود قد استخلص أن الإله الذي تتحدث هذه الكتب عنه ليس إلا إلهًا قبليًا لبني إسرائيل دون سائر البشر. فكان كلما تعمق في دراسة اليهودية ضعف إيمانه بها.

لم يمنعه أصله الأوروبي من أن يصير رجلاً عربيًا. ولم يمنعه كونه سليل بيت يهودي من أن يصير مسلمًا حقيقيًا. لم تمنعه مكانته المرموقة في دنيا الصحافة الألمانية من أن يستقر في جزيرة العرب. لم تمنعه منزلته لدى الملك عبدالعزيز من الترحال شرقًا إلى الهند، و السعي الدؤوب لإيجاد دولة الباكستان الإسلامية. لم يصده اعتقال البريطانيين له من أن يرسل بابنه إلى جامعة أكسفورد. ولم يمنعه منصبه الدبلوماسي المرموق في الأمم المتحدة عن التخلي عن كل شيء، مؤثرًا أن يقضي بقية عمره في الغرب داعيًا إلى الله. و برغم ضآلة ما حققه العالم الإسلامي من تنمية، فإن محمد أسد لم يفقد قط روح التفاؤل. و عندما آثر محمد أسد البقاء في الغرب، فإنه لم يفعل أكثر مما فعله كثير من العلماء والمفكرين المسلمين، الذين وجدوا هناك أرضًا خصبة و ميدانًا مفتوحًا للكتابة والنشر وإلقاء المحاضرات العامة، مستفيدين من الحرية والتفتح العقلي.

في عام 1900م ـ وفي مدينة تابعة لإمبراطورية النمسا آنذاك ـ ولد ليوبولد فايس Leopold Weiss «تنطقVyce » لأسرة يهودية، و كانت أمه تعده ليكون حاخامًا مثل جده بنيامين فايس، وأما أبوهAkiva الذي درس التلمود فقد عمل محاميًا. أما خاله مناحم مندل فقد كان مصرفيًا. وانتقل الابن مع أسرته إلى فيينا قبيل الحرب العالمية الأولى. درس الشاب التوراة، وأتقن العبرانية، حتى صار بمقدوره أن يقرأها ويتحدثها بطلاقة ولما يبلغ الثالثة عشرة. وتعرف على اللغة الآرامية، وهو ما سهل له فيما بعد تعلم العربية. وعندما بلغ الثامنة عشرة التحق بجامعة فيينا ليدرس تاريخ الفنون.

عمل في وظائف صغيرة، بعد أن هجر العائلة و هو في سن العشرين، فترك فيينا إلى برلين، إلى أن ساقته الأقدار إلى العمل بالصحافة، وكان عمله بالصحافة مفتاح الخير الذي قاده إلى هداية الإسلام، وإلى الكتابة عن الإسلام والمسلمين ببراعة واقتدار عز نظيرهما.

في العشرين من عمره حقق (خبطة) صحفية عندما تمكن من نشر مقابلة أجراها مع مدام جوركي التي كانت متخفية في برلين سنة 1921م، تقود حملة لحث الدول الأوروبية على عمل شيء لإنقاذ شعبها في روسيا من المجاعة. وما إن نشرت المقابلة على نطاق واسع حتى أصبح الشاب مراسلاً صحفيًا ذا شأن، و لا سيما أنه يتقن عدة لغات.

لم يحقق له النجاح المهني في عالم الصحافة ما كان ينشده، فلم يعثر بعد على الإجابات لما يؤرقه من تساؤلات، فلم يكن حتى ذلك الحين يدري: إلام و إلى من ينتمي؟ حتى كان اليوم الذي دعاه فيه خاله دوريان (محلل نفسي من تلاميذ فرويد) لزيارته في القدس سنة 1892م. ذهب الشاب إلى القدس، حيث أقام في بيت عربي من الحجارة، بالقرب من بوابة يافا، وهو ما جعله مثيرًا لذكريات التاريخ، بالإضافة إلى ما كان يحتويه من كتب تشبع نهمه إلى المعرفة.

في القدس بدأ فصل جديد من حياة ليوبولد فايس، فقد عاش في جوار بيت المقدس، و لم يكن قد انقضى على وعد بلفور سوى خمس سنوات. وكانت موجة ثالثة من الهجرة اليهودية في أوجها. خمسة وثلاثون ألف صهيوني من شرق أوروبا، جلبوا ليزرعوا كيانًا جديدًا، وهوية جديدة.

ولأنه جاء إلى فلسطين ليفكر ويكتب، فقد بعث بمقالة عن المشرق الإسلامي إلى عدد من الصحف الأوروبية، وكم كانت دهشته بالغة حين تلقى ردًا إيجابيًا من أكبر الصحف الألمانية Frankfurter Zeitung مع تعاقد على كتاب يكتبه عن المنطقة (شاع لاحقًا مصطلح الشرق الأوسط).

لم يكن ما كتبه فايس ليروق للصهاينة آنذاك ـ وحتى اليوم ـ فقد كتب أن الفكرة الصهيونية ضارة خطرة وغير أخلاقية. قال يومها: «ما الذي يعرفه اليهود الأوروبيون عن فلسطين؟ لا شيء! إنهم لم يعرفوا قط أن فلسطين أرض للعرب. وكذلك كنت أنا من قبل، كنت أتخيل العرب هناك من البدو ساكني الخيام هائمين بعيدًا في الصحراء.. ولأن كل ما سبق أن قرأته عن فلسطين كان بأقلام صهيونية، فلم أكن أدري أن فيها شعبًا عربيًا، الآن ـ عام 1922م ـ وجدت أن هناك خمسة من العرب في مقابل يهودي واحد .

وعندما واجه الشاب بهذه الكلمات مناحم أوسيشكين Menachem Ussishkin رئيس اللجنة الصهيونية التنفيذية، قطب جبينه، ورد: «إنهم ـ العرب ـ لن يعودوا الأغلبية بعد سنوات».
جُوبه ليوبولد فايس بحملة كراهية من المستوطنين اليهود الذين صدموا من مقالاته، برغم كونه ـ في نظرهم ـ «يهوديًا على أرض إسرائيل». كما اندهشوا من تنقيبه الدؤوب في الثقافة العربية، برغم كونه أوروبي النشأة. أما المستوطنون فلم يكلفوا أنفسهم عناء التفكير في السكان العرب، ولم يخطر ببال أحدهم أن يتعلم العربية. لقد تقبلوا بشكل قاطع ـ دون تفكير ـ مقولة «أرض إسرائيل التاريخية». ولم يكونوا يلتفتون إلى كلام الشاب، أو يأخذونه على محمل الجد.

وعندما ناقش الشاب زعيم الحركة الصهيونية حاييم وايزمان Chaim Weizmann ، في مدى أخلاقية الاستيطان و إحلال اليهود مكان العرب، ابتسم الرجل وغير موضوع الحديث. وبعدها غادر الشاب أرض فلسطين في زيارة للقاهرة، ليبلغه بعد قليل مقتل يعقوب صديقه اليهودي المعارض للصهيونية، بأيدي إرهابيين صهاينة من الهاجناة. واعتبر ليوبولد فايس في عداد المرتدين، حتى إن ذكره لم يرد في السجلات الصهيونية، بل إن كتابه «الطريق إلى مكة» لم يترجم إلى العبرية.

يقول طلال أسد: «نعم كان والدي معارضًا تمامًا للصهيونية، و كان يؤمن أن إقامة دولة إسرائيل ظلم فادح، لكنه لم يكره يومًا الديانة اليهودية أو الأشخاص اليهود. نعم كان يؤمن بأن الإسلام دين متفتح، و لكن لم أسمعه قط يحط من قدر الديانة اليهودية. بل إن من دواعي الافتخار بوالدي وعيه العميق بضرورة أن يتفهم أصحاب كل ديانة مواقف الآخرين».

ونحن من جانبنا نؤكد قول القائل: إن الإسلام وحده هو الذي يعترف بالآخر، وتاريخ السماحة في التطور الإنساني بدأ من الإسلام، فقبل ظهوره لم يكن هناك اعتراف بالآخر.. اليهودية لم تكن تعترف بالمسيحية ولا المسيحية اعترفت بالإسلام.

عندما وصل أسد إلى لندن سنة 1938م بتأشيرة على جواز سفره النمساوي، حاول جاهدًا أن يستنقذ أفراد عائلته من نير النازي، لكن محاولاته على مدى أحد عشر شهرًا باءت بالفشل. و عندما أعلنت بريطانيا الحرب على ألمانيا، اعتبر محمد أسد من الجنسيات المعادية، فاعتقل فور عودته إلى الهند.

يقص محمد أسد ذكريات مدة الاعتقال فيقول: من غرائب الأحداث أن معسكر الاعتقال كان يضم النازيين وغير النازيين، الفاشيين وغير الفاشيين، لكن المسلم الوحيد هنالك كان أنا. ولم يطلق سراحه إلا في أغسطس 1945م. وفي أثناء الاعتقال انقطعت أخبار أسرته، ثم علم أن أخته وأباه وزوجة أبيه قد قضوا نحبهم في معسكر الاعتقال النازي. (كانت والدة محمد أسد قد توفيت من قبل سنة 1919م).

عندما دعاه خاله دوريان Dorian إلى زيارة القدس، لبى الدعوة، وأمضى زمنًا في دار خاله على بعد خطوات من الحرم القدسي، حيث اكتشف هنالك حقيقة الإسلام. ومعها اكتشف الطبيعة غير الأخلاقية للصهيونية. وبرغم أن دوريان لم يكن يعتبر نفسه صهيونيًا، فإن أخًا له يدعى Aryeh كان من متعصبي الصهاينة، وكان طبيبًا للعيون، ويبدو أن سيرة هذا الرجل قد ولدت لدى فايس رفضه للصهيونية. لكن شاعرًا هولنديًا يدعىJacob Israël de Haan من المهاجرين إلى القدس آنذاك كان له فضل في تغذية الميول الرافضة للصهيونية لدى فايس. كما ساعده في العمل بالصحافة، و هيأ له فرصة السفر إلى القاهرة، ثم كان أن هيأ له في صيف 1923م لقاء الأمير عبدالله في عمّان، التي لم يزد عدد سكانها يومذاك (1923م) على ستة آلاف نسمة. وظل فايس يكتب في الصحف الأوروبية والمصرية مقالاته (التي نتمنى على الباحثين أن يعثروا عليها) التي فضحت الخطط البريطانية السرية لمد خط حديدي بين حيفا والبصرة. ولعل مقالاته تلك كانت هي السبب وراء اعتقاله في الهند.

وصار فايس مراسلا ًمهمًا للصحيفة الألمانية المعادية للسياسة البريطانية وكتب بالألمانية كتيبًا عن العرب والمسلمين في المنطقة، الأمر الذي جعل الصحيفة ترغب في أن يضع الرجل كتابًا أشمل، فأرسلته في رحلة ممتدة في العالم الإسلامي استغرقت عامين، اكتشف خلالها الرجل مصادر إلهامه الجديدة.

انتقل الشاب ثانية مراسلاً خاصًا لكبريات الصحف الأوروبية، طاف بعمّان فدمشق فبغداد ومنها إلى إيران و أفغانستان. كما لو كان الإسلام يتكشف أمامه شيئًا فشيئًا، حتى كانت ليلة شاتية في إحدى المقاطعات الجبلية الأفغانية، دار فيها الحوار عفويًا، حتى قال الشاب موجهًا كلامه لمضيفه المسلم: «أنتم كثيرون..ولكن إيمانكم ضعيف». ولما قوبل كلامه بالاستغراب، راح يشرح مراده في صورة سيل من الأسئلة: «كيف حدث أنكم أيها المسلمون قد فقدتم ثقتكم بأنفسكم، تلك الثقة التي مكنتكم في الماضي من نشر دينكم في أقل من مئة عام، من جزيرة العرب حتى الأطلسي غربًا وإلى أعماق الصين شرقًا؟ وأنكم اليوم تسلمون أنفسكم بمثل هذه السهولة ومثل هذه الضعف إلى أفكار الغرب وعاداته؟ لماذا لا تستطيعون وأنتم الذين أنار أجدادكم العالم بالعلم والفن في وقت كانت أوروبا فيه غارقة في البربرية والجهل أن تستجمعوا شجاعتكم للعودة إلى دينكم».. فاجأه أمير المقاطعة بالقول: «إنك مسلم في قرارة نفسك، حتى وإن لم تكن تدري، فلم لا تنطق الآن هنا: أشهد ألا إله إلا الله و أشهد أن محمدا رسول الله؟!
لكن الشاب فايس لم يفعل ساعتها، وبدلاً من ذلك واصل الترحال: من كابول إلى غزنة إلى قندهار إلى هراة، ومن هناك عبر جبال الأورال فموسكو إلى فرانكفورت.

مرت بالرجل قبل إسلامه فترات طويلة من الحيرة والقلق والتململ من القيم السائدة من حوله في شرق أوروبا وفي غربها. وخبر ما يدور في مقاهي الأدباء من مناقشات لم تشف عنده غليلاً، أو: «لم تجب عن الأسئلة الخالدة في حياة الإنسان». فاقتنع صاحبنا بأن الغرب يعيش حالة خواء روحي وإفلاس قيمي، وزادت قناعته بأن المخرج من حالة الإفلاس هذه لا يأتي من داخل منظومة الثقافة الأوروبية، بل من خارجها. وكما قال طاغور شاعر الهند الكبير، لمفكر غربي: «صحيح أنكم استطعتم أن تحلّقوا في الهواء كالطير، وأن تغوصوا في البحر كالسمك، ولكنكم لم تحسنوا أن تمشوا على الأرض كالإنسان».
وعند هذه النقطة بدأ محمد أسد في تهيؤ حقيقي لدخول عالم جديد مغاير تمامًا، ألا وهو عالم الإسلام.

عندما خرج من برلين متوجهًا إلى الشرق في صيف 1922م كان لا يزال كما قال عن نفسه: «لقد كنت شابًا أوروبيًا ناشئًا على الاعتقاد بأن الإسلام وكل تعاليمه لم يكن أكثر من طريق فرعي لتاريخ الإنسان، غير جدير بالاحترام، من الناحيتين الروحية والأخلاقية».

وفوق الباخرة المتجهة إلى الإسكندرية، التقى والأب اليسوعي «فالكس»، فدارت بينهما حوارات، تبين منها أن الشاب يائس من الإيمان اليهودي والمسيحي على السواء، لأنه كان حسب قوله: «إنني أحلم بشكل من الحياة يسعى فيه الإنسان كله روحًا وجسدًا، ويجاهد في سبيل تحقيق ذاتي أعمق. شكل لا تكون فيه الروح والمشاعر عدوين كل منهما للآخر.
يروي محمد أسد عن الإرهاصات المبكرة التي ملأت قلبه إعجابا بالإسلام، فيحكي واقعة تنبئ عن الكرم العربي العفوي التلقائي، حين تقاسم كعكة مع مسافر بدوي في القطار المتجه عبر صحراء سيناء إلى القدس. ثم يروي كيف شعر بروعة الصلاة وروحانيتها، عندما شاهد شيخًا في شرقي القدس يؤم رجالاً في تبتل حقيقي.

ويصف محمد أسد سعيه الجاد نحو التعرف على عالم الإسلام بأنه رغبة في فهم الحال التي آلت إليها أوروبا عقب الحرب العالمية الأولى، فقد وصفها بأنها «التسكع اليائس وراء صيغ جديدة من التعبير، في الفنون وعلم الاجتماع والسياسة». واهتدى إلى القول: «إن جميع آلاتنا و ناطحات سحابنا لم تعد تستطيع شيئًا لإعادة وحدة روحنا المحطمة ». وهي الفكرة نفسها التي صاغها من بعد فوستر دالاس: «إن الأمر لا يتعلق بالماديات، فلدينا أعظم إنتاج عالمي في الأشياء المادية. إن ما ينقصنا هو إيمان صحيح قوي، فبدونه يكون كل ما لدينا قليلاً. وهذا النقص لا يعوضه السياسيون مهما بلغت قدرتهم، أو الدبلوماسيون مهما كانت فطنتهم، أو العلماء مهما كثرت اختراعاتهم، أو القنابل مهما بلغت قوتها».

ثم عاد الشاب إلى مقر صحيفة فرانكفورتر في برلين، ليتم الكتاب المطلوب، و هناك في برلين قابل إليساElsa ، رسامة أرستوقراطية موهوبة، أرمل في الأربعين، لديها طفل في السادسة، من زواج سابق. لم يوهن غياب محمد أسد عن أوروبا مدة عامين من حبه لهذه السيدة التي تكبره بخمسة عشر عامًا. وكانت كلما ترددت في الزواج منه ازداد هو تشبثًا بها. لم يبالغ حين قال إنه لا يتصور حياته دونها، لقد كانت تشاركه قراءة القرآن، حتى قبل أن يعلن هو نفسه الإسلام، وكانت تبدي خلال مناقشاتها مدى تأثرها بتعاليم القرآن الأخلاقية وتوجيهاته العملية.
راح يستغرق في قراءة القرآن الكريم، ويتأمل التعاسة تعلو وجوه القوم، برغم الرواج الاقتصادي نسبيًا آنذاك.
بعد زواجه منها، وبعد تمتعه بوظيفة مرموقة، ومركز أدبي ومرتب كبير ومستقبل واعد، لم يكن في الظاهر ثمة سبب يدعوه لمغادرة أوروبا. وفي يوم عيد الغطاس كان الشاب وزوجته يستقلان مترو الأنفاق، و ظلا يرقبان الوجوه التي لم يبد عليها البشر قط، برغم أن اليوم عيد، وبرغم مظاهر الأبهة البادية في ملابسهم و هندامهم. رجع إلى البيت، لمح مصحفًا مفتوحًا على سورة فسرت له حالة الشقاء التي ظهرت بوضوح على وجوه القوم، إنها سورة التكاثر. تحدث إلى إليسا فوافقته على ما أبدى من ملاحظات تربط بين السورة القرآنية وبين حال الشقاء التي لمساها في راكبي المترو.
نطق محمد أسد بالشهادتين هناك في أوروبا، أو في برلين تحديدًا في عام 1926م. ولما كانت الكلمة اليونانية «ليو» ـ المقطع الأول من ليوبولد ـ تعني «الأسد»، فقد اختار له أحد المسلمين المهاجرين هنالك اسم «محمد أسد». أسلم الرجل، وبعد أسبوعين أشهرت إليسا إسلامها، وصار طفلها يسمى أحمد.
أرسل محمد إلى والده خطابًا يخبره بإسلامه، فلم يتلق رده. فأتبعه بثان شرح فيه أن الإسلام لا يقطعه عن البر بوالديه، لكن الرد هذه المرة جاء من أخته التي قالت إنهم اعتبروه في عداد الأموات. لكن الله خفف عن الشاب المهتدي كل عناء عندما بادرت إليسا إلى إعلان إسلامها بعد أسبوعين.

وشأنه شأن غيره من المهتدين، يقص محمد أسد مواجيده حيال أصوات المؤذنين، و يعبر عن تذوقه للأذان في عباراته الفريدة، فيسميه تارة «الإنشاد»، ويصفه تارة بأنه «اللحن الدائم»، و يرى في الأذان مقدار التوحد و النسيج الروحي بين مسلمي المشارق والمغارب. كما يحكي صاحبنا سيرة بدء قراءاته القرآن الكريم، عن طريق ترجمة فرنسية وأخرى ألمانية، إضافة إلى بعض الأعمال الاستشراقية، وإيضاحات صديق دمشقي. حدث ذلك في إثر مشاهدته الصلاة الجامعة في الجامع الأموي التي عبر عن انطباعاته إزاءها بالقول: «أدركت مبلغ قرب هؤلاء القوم من ربهم ومن دينهم. إن صلاتهم لم تكن تبدو منفصلة عن يوم عملهم مستقلة عنه، بل كانت قسمًا منه. لم يقصد بها أن تساعدهم على نسيان الحياة، بل على ذكرها عن طريق ذكر الله بطريق أفضل.

أدرك محمد أسد تمامًا مدى تطابق الإسلام مع أشواق البشر، فأوضح ذلك: «إن الإسلام لم يبد لي دينًا بالمعنى الشائع للكلمة (في الغرب) بمقدار ما بدا طريقة في الحياة، ولا نظامًا لاهوتيًا بمقدار ما تبينته منهاجًا للسلوك الشخصي والاجتماعي، قائمًا على ذكر الله». ثم يواصل ـ رحمه الله ـ القول «إنني لم أستطع أن أجد في أيما مكان في القرآن أيما ذكر لحاجة إلى الخلاص، ليس في الإسلام من خطيئة أولى موروثة تقف بين المرء ومصيره، ذلك أنه ليس للإنسان إلا ما سعى. ولا يطلب أيما نسك أو إماتة لفتح باب خفي إلى الطهارة، ذلك أن الطهارة من الصفات حق يرثه الإنسان بالولادة».

هكذا اهتدى الرجل، وفقه في دين الله، وأخلص لعقيدة التوحيد، وأحب أهل القبلة. ولكن راعه البون الواضح بين صفاء العقيدة وكدر الحياة الواقعية للمسلمين، فقال بغير مواربة: «لم يكن المسلمون هم الذين جعلوا الإسلام عظيمًا، بل لقد كان الإسلام هو الذي جعل المسلمين عظماء. إلا أنهم ما إن أصبح إيمانهم عادة، وانقطع عن أن يكون منهاجًا في الحياة يتبع بوعي وإدراك، حتى خبت تلك القوة الدافعة الخلاقة التي كانت من وراء مدنيتهم، و أفسحت المجال إلى الاسترخاء والعقم والانحطاط الثقافي».

ألا ما أروع مقولته: «أنا لم أصبح مسلمًا لأني عشت زمنًا طويلا ًبين المسلمين، بل كان الأمر عكس ذلك، ذلك أنني قررت أن أعيش بينهم لأني اعتنقت الإسلام». في يناير 1927م خرج ثلاثتهم (أسد وإليسا وأحمد) قاصدين الحج، و في طريقهم نزلوا بمصر. وهناك تحدث محمد أسد طويلاً إلى الشيخ المراغي (الذي صار شيخًا للأزهر). ترك اللقاء مع الشيخ مصطفى المراغي أثرًا عميقًا لدى محمد أسد، فتنبه إلى ضرورة إحياء الدين في النفوس على أصوله الصحيحة. و كان تجواله في أرجاء العالم الإسلامي المترامية قد كشف له عن أنماط شتى من سلوكيات المسلمين، فبعد ترحاله توصل إلى نتيجة مفادها أن سبب تأخر المسلمين لا يكمن في دينهم، بل يكمن في سوء فهمهم له، أو عدم التزامهم به. وتأكدت لديه هذه الأفكار من خلال مقابلاته مع شخصيات مرموقة عبر العالم الإسلامي: عمر المختار في برقة، الشيخ ابن بليهد في المدينة المنورة، العلامة إقبال في لاهور.

ثم خرج قاصدًا حج بيت الله الحرام، وهنالك ماتت زوجته الأولى «إليسا»، حيث دفنت في أشرف جوار، بعد تسعة أيام من أدائهم فريضة الحج. وبعد عام من وفاة إليسا، أرسل الطفل أحمد إلى أهلها في ألمانيا. وعانى محمد أسد الحزن والانقباض، اللذين لم يخففهما عنه سوى الانغماس في دراسة الإسلام واللغة العربية.

وبينما كان يتردد كعادته على المكتبة العامرة بمكة المكرمة، شاهده (الأمير) فيصل بن عبد العزيز الذي دعاه لمقابلة الملك ابن سعود. وصار يتردد على مجلسه بانتظام، حتى منحه الملك ترخيصًا يتيح له التجوال عبر أنحاء الجزيرة العربية دون أن يعترضه أحد. و أمضى محمد أسد في جزيرة العرب ست سنوات، توثقت فيها علاقته بالملك عبد العزيز مؤسس المملكة العربية السعودية.

في عام 1930م تزوج محمد أسد سيدة من شمر، رزق منها بولده طلال. رزق ـ بعد تسع سنوات من لقائه والأمير عبد الله في الأردن ـ بمولود سماه على اسم الأمير الصغير «طلال»، جد الملك عبد الله الثاني، عاهل الأردن الحالي. وأقام ثلاثتهم بالمدينة المنورة، حيث انهمك الأب في دراسة الإسلام. و شعر كما لو كان هنا موطنه الأصلي، فلم يعد غريبًا. واستفاد محمد أسد من عبد الله بن بليهد الذي وصفه بالقول: «إنه أعظم علماء نجد على الإطلاق» و«كان من أذكى الرجال الذين عرفتهم في العالم الإسلامي».

وما كان لمحمد أسد أن تطول إقامته بالجزيرة العربية دون أن يأتي على ذكر الشيخ محمد بن عبد الوهاب، فقد سجل: «إن جميع حركات النهضة في الإسلام اليوم ـ حركة أهل الحديث في الهند، وحركة السنوسي في شمال إفريقيا، ونشاط جمال الدين الأفغاني ومحمد عبده ـ يمكن أن ترجع إلى الدافع الروحي الذي حركه محمد بن عبد الوهاب في القرن الثامن عشر ».

إن من يعشق القول البليغ والوصف البديع، سيجد لا شك في أسلوب محمد أسد ـ بالإنجليزية والعربية ـ ما يشبع رغبته في تذوق النثر الفني، و سيجد ذلك أوضح ما يكون في وصف محمد أسد الليل والبيداء والنوق وعيون الماء وبيوت الشعر والبدويات وحداء الإبل. يصف رحلته في بوادي الجزيرة: «ومن حولنا حتى الأفق المتموج نبت سهل خال طبشوري، وهب فوقه نسيم عليل حار ، قادمًا من لا مكان، و ذاهبًا إلى لا مكان دونما بداية و دونما نهاية، دندنة مكتومة من الأبدية نفسها». و يمكن للقارئ أن يحس شاعرية محمد أسد عندما يصف محبة النبي الأعظم صلى الله عليه وآله في قلوب المسلمين: «لقد بقي هذا الحب بعد وفاته، وهو لا يزال حيًا في قلوب أتباعه حتى اليوم، كنشيد متعدد النغمات، إنه حي في «المدينة» ما يزال ينطق به كل حجر من أحجارها، و إنك لتكاد تستطيع أن تلمسه بيديك، ولكنك لا تستطيع له صوغًا في كلمات».
 

 

عرض كتاب (الطريق إلى مكة): وثيقة استبصار صادقة بحق الأمة

جريدة البصائر

ترددت كثيراً في نشر هذا المقال رغم انني كنت قد كتبته قبل ما لا يقل عن سنتين (ما فائدة ان تتعرض لكتاب كان قد طبع قبل اكثر من نصف قرن وليس سهلاً على القراء الحصول على نسخة منه في زماننا هذا او تداوله بطريقة ما، ثم ما قيمة ان تتكلم عن رجل كان قد عاش بيننا لا كثر من ربع قرن واحبنا كثيراً مجّدنا كثيراً وتغنى بخصائصنا كثيراً في المحافل العالمية لكن هذا كان قبل نصف قرن وليس الان لكنني عدلت عن ترددي ذاك ساعة اطلعت على مجموعة من الكتب روجت حديثاً في اسواقنا وما من شيء يجمع بين هذه الكتب الا التجني على التاريخ العربي الاسلامي، ما من شيء يجمع بينها الا مواكبة كل ما يطرح من روى اجهاضية لهذه الامة تعد في مختبرات قوى النهب العالمي، في مختبرات اليهودية العالمية فقررت عرض هذا الكتاب لقراء البصائر الكرام في محاولة لالفات نظرهم الى قيمة هذا الكتاب.
مدهش وعظيم أمر هذا الدين وقوية وصلدة (نقاط جذبه) للنفوس الكبيرة وهي تلتقطه قدراً لها ورحمة من الله وتوفيقاً ثم تمسك به (خياراً اخيراً) وسراجاً منيراً ينير لها الدرب وينقيها من كل الظلمات التي كانت عليها في ما قبل ،والا فما تقول في هذا الثبات هذا اليقين ذلك النقاء الايماني ذلك التسامي؛ تلك (كان خلقهم القرآن) في رجال مثل سعد بن معاذ وبلال الحبشي وسلمان الفارسي وصهيب الرومي وابي ذر الغفاري وصلاح الدين الايوبي وعمر المختار وسيد قطب وملايين اخرين على مر التاريخ بعضهم نعرفهم وبعضهم الاخر لا يعلمهم الا الله ممن هم على شاكلتهم ولعل ممن هم على شاكلة هذه (النفوس الكبيرة) ولا نزكي على الله احداً الرحالة الاوروبي النمساوي تحديداً والصحفي الشهير المفكر الكبير ثم سفير باكستان في الامم المتحدة لخمس سنوات متتالية ابان استقلالها ومؤلف كتاب (الطريق الى مكة) الكتاب الذي ترجم الى معظم لغات العالم ونال شهرة عالمية واسعة محمد اسد او ما كان يطلق عليه قبل اعتناقه للاسلام (ليوبولد فاس).. الرجل الذي شق طريقه في مقتبل عمره- كان عمره انذاك لا يتجاوز الـ(22) سنة- من قلب اوروبا الى اطراف العالم المترامية انذاك الشرق والوطن العربي بحثاً عن المغامرة وانفلاتاً من بيئة (راكدة) ونمطية (ومالوفة اكثر مما يجب) الى بيئة اخرى ما زالت (ساخنة) و(بدائية) و(مختلفة) ولم تتلوث بسخام وعقم الحضارة الغربية بعد، ليجد نفسه وقد الف هذه البيئة واخذ بها بانسانيتها وحريتها وعزتها وعمران نفوس اهلها وتساميها حد التوحد واياها في بوتقة واحدة؛ حد الذوبان فيها تماماً ومتخلياً عن كل ماضيه الاوروبي ثم مسلماً عامراً بالايمان ومجاهداً في صفوفه ومدافعاً كبيراً عنه امام بني جلدته (ومع اني كنت اشعر دائماً باني على خصام عتيق مع العالم النهم المر المتناثر الذي كنت جزءاً منه، فاني لم ارغب في العيش في برج عاجي بعيداً عنه) والعرب (انفس خالية من التصدع، وتلك الاشباح التي تطارد الاوروبي من الخوف والكبت) (الطريق الى مكة)).
عبر 400 صفحة من القطع الكبير يقودنا محمد اسد في كتابه (الطريق الى مكة) الى رحلة شاقة وطويلة ومتشعبة وعنيفة في الشرق وفي ارض العرب خاصة وشعبهم ليكتشف فيها جغرافيتهم وذاتهم وتساميهم وانسجامهم واعتدادهم الكبير بانفسهم وحيويتهم وتآلفهم وتآخيهم عبر هذا الدين العظيم الذي يدينون به الاسلام وهو في (الطريق الى مكة) لا يكتفي بسرد الاحداث منغلقة في قواقعها ولكنه يتبصر عبرها الطبيعة والتاريخ والعقائد والانسان والكون في رؤية اقرب ما تكون الى رؤية فيلسوف متصوف شغلته الحقيقة والحياة والانسان منها الى رؤية كاتب عابر وتسطيحي مر قدراً بهذه الامصار.. والاشياء عنده في ارتباطاتها في رمزيتها، في تأريخيتها تتجاوز عنده وظائفها الضيقة لتشابك بعضها في البعض الاخر في وحدة كونية مدهشة وعظيمة، فالصحراء ليست هي ذلك الجفاف وللاتناهي في الامتداد والريح العاتية والرمال الساخنة لكنها ذلك التسامي تلك الوحدة العميقة ذلك النشيد الكوني الجبار تلك الام الرؤوم لكل الديانات السماوية تلك الارض الخصبة لمشاعر جياشة ويقين مطلق بوحدانية الله وسعة مكة..
انها ليست ذلك العذاب لكنها ذلك التطهير من ادراننا التي تلوثنا بها ونحن ننغمس كل هذا الانغماس في مستنقع الحياة ورمالها.
وهو لا يمر بالشرق الاسلامي والجزيرة العربية مروراً عابراً او تبشيرياً او استشراقياً مما يفقدها- الرحلة- روح الاستكشاف والتجديد، والرغبة في رؤية الاعماق بل هي رحلة المفكر في معاينة الاشياء والانسان والمتوحد بالطبيعة والانسانية والباحث من صميم قلبه عن خلاص ما عميق للذات الانسانية مما يشوبها من تشوه وتراكمات ماضوية عقيمة وعدوانية فجة وسقوط مريع في مادية آسنة او انصياع الى طقوسية كاذبة وخداع روحي مريع عانت منه، وما تزال تعاني اوروبا كثيراً...
رحلة تكاد ترتقي تماماً الى فلسفة الصمت والتأمل صمت الصحراء وقوة تشكلها وجلال وعمق حياتها وامتدادها اللانهائي.. هامت الروح وهي تتأمل، جلال واتساع وعمق الحياة والكون وحيثيات نسغها النابض وتغرق فيها (الحياة بجلالها وعظمتها وجلال الاتساع والامتداد، وعظمة المفاجأة هنا في هذه الصحراء يفوح شذى العرب، واريجها وتظهر روعة التبدل فيها (الطريق الى مكة).
ان ذلك (الاغتراب) تلك العزلة التاريخية للانسان وهو يعاني (مصيره المفجوع) ذلك النفي القسري للانسان في عالم لايختاره بمحض ارادته) ذلك اللاتوافق بين الانسان وعالمه لم تعد هي رموزاً وصياغات أسد وهو يألف عالماً آخر غير ذاك العالم الذي ترعرع فيه، لم تعد تشكل اطارات ومحتوى لاوعيه الوعي:(كل منا يعاني وبطريقة ما مصيره فلماذا الفرح والابتسام) او (الفجيعة تلطخ وجوهنا جميعاً فلنهرب منها قليلاً) او (الانسان حامل صليب الحضارة ولا خلاص الا في العدم او الموت) ويحل بدلاً منه -الوعي- (كانت النشوة تغمر قلبي وسمعت الرياح التي كانت تصفق في وجهي تغني وكانها تقول (انك لن تبقى غريباً بعد الان.. لن تبقى.. انك بين اهلك وقومك هؤلاء.. لم اعد غريباً ذلك ان جزيرة العرب قد اصبحت وطني، وان ماضي الغربي اشبه بالهم البعيد) (الطريق الى مكة).
ومحمد اسد ورغم هذه الـ (400) صفحة لا يغرق في تفاصيل الاشياء وتحولاتها في سطوحها في تفاعلاتها متخلية عن اعماقها في تلك المألوفية الساكنة والمزمنة فيها والتي قد لا تأتي بجديد يذكر ان شخصت في ثنايا الرحلة بل هو يتأمل ويستبصر الاشياء متفاعلة في اعماقها تلك الامتدادات تلك الجذور تلك الارتباطات المتشعبة للاشياء، وهي تتشكل او تتبدل او تنتفض او تتداخل في بعضها البعض (ذلك ان المرء لا يستطيع ان يثرثر في الصحراء).
ولكن لماذا هم على كل هذه الفاعلية. وما سر هذا السلام الداخلي الذي يغمرهم؟ لماذا هذا الاخاء الانساني العارم الذي يسود حياتهم
؟ لماذا هم ليسوا مثلنا في هذا الجحيم الذي نعانيه في هذا الخواء والكذب والابتذال الذي يلف حياتنا نحن في اوروبا. يتساءل محمد اسد كثيراً في كتابه وهو يتفحص نمطيات السلوك اليومي للعربي المسلم في دياره وعالمه فيهتدي اخيراً بعد جهد جهيد ومعايشة عميقة للمجتمع العربي الاسلامي ثم مطالعة مستفيضة للتاريخ العربي والقرآن الكريم والسنة النبوية المطهرة الى ان الاسلام ديناً ومنهجاً ورؤية وثقافة وعقيدة هو ما يجعلهم على كل هذا السمو وهذه الاشراقية العامرة في حياتهم هو سر عمرانهم البشري الكبير واذا كان من الصعوبة بمكان ان تمسك وتتابع كل تلك التكوينات كل تلك الصياغات وهي تتلاحق وتتزاحم تحت مجهر محمد اسد المعرفي فانك لن تنسى مثلا تلك البدويات الآتيات من القرية ليجلبن الماء في أوان نحاسية (فانهن لم يفتقدن سيماء الجد التي كانت لاجدادهن يوم كانوا قومأً رحلاً، وكانت رحلاتهن واضحة معينة ومحافظتهن خالية من كل خجل عندما اخذن بصمت حبل الدلو من يدي وسحبن الماء لهجيني (لبعيري) تماماً كما فعلت تلك المرأة منذ اربعة آلاف من السنين لخادم ابراهيم عليه السلام عندما جاء من ارض كنعان ليجد لابنه اسحق زوجة من بين انسبائه في آرام او (منذ ان بدأ الانسان يفكر كانت الصحراء ولا تزال مهد كل اعتقاداته في اله واحد).
ان محمد اسد فيما آل اليه بعد رحلته تلك في ذلك الانبثاق الذي صار اليه يلغي وبقسوة كل ذاكرته التي كان عليها قبل رحلته تلك.. الصحراء.. المدن العربية.. (زيد رفيق) رحلته، مكة المكرمة.. المدينة المنورة، تقاطيع الوجه العربي الصقرية، اسواق القدس دمشق وجدة الفرات وزهوه الملكي اضحت كل ذاكرته.
لقد توقف عند ذلك التسامي الذي استشعره في الوجوه العربية وهي تلتقيه في الاسواق او في الصحراء تلك الحرية العميقة التي كانوا عليها، تلك الملوكية النائمة فيهم فذلك البدوي الذي شاركه مقعده في القطار والمتلفع بعباءته، والصامت في كبريائه واعتداده العظيم بنفسه لا يقتحم عليه وجوده، فيتطفل عليه او يحيل عليه رحلته الى جحيم لا ينسى، لكنه وفي ذات الوقت لا ينفيه في زنزانته الانسانية بل يشاركه فيما لا يثقل عليه ببعض حوارات قصيرة، ثم وحين يتوقف القطار في احدى المحطات يصر على ان يقاسمه كعكعة صغيرة اشتراها من بائع جوال ظل رمزاً رائعاً لا ينفك يتذكره المرة تلو المرة.. لقد غذى ذلك الاخاء الانساني التلقائي اللامتكلف كل ذاكرته التي سيكونها في مستقبل ايامه.
اما اوروبا مدنها عالمها ذلك الجحيم تلك المدن العامرة في حجارتها والخاوية في انسانيتها ذلك الانسجام بين الانسان وعالمه تلك الوجوه المتكسره الكئيبة (تلك الصدوع الروحية تلك الاشباح من الخوف والنهم، والكبت التي تجعل الحياة الاوربية بشعة جداً ولا توحي الا بالقليل من الامل) (الطريق الى مكة) فلم تعد تعنيه بشيء ولم تعد له ثمة رغبة بالعيش بين تروسها او بالنكوص اليها ثانية (عالم آخر اريد استبداله بعالم جديد وعامر وممتلئ (الطريق الى مكة).
والطريق الى مكة ليست سيرة ذاتية تحاكي الزمن في تتاليه بل هي وثيقة استبصار انساني صادق تعتمد قراءة الظاهرة الانسانية ثم تحليلها الى عناصرها الاولية وهي لا تعتمد اسلوب تدفق الاحداث تباعاً. ولا تلتزم ثوابت الرواية او السيرة في تعظيم الحدث وطغيانه مما يفقدها تلك القراءة الفكرية العميقة التي تتسم بها، ولكن قراءة شاملة وعميقة للكتاب قد تمنحك فرصة استرجاع وترتيب احداثها زمنياً.
ولعل اروع احداثها هو ذلك الفصل الذي يروي فيه قصة مقابلته- محمد اسد- للشيخ المجاهد عمر المختار في ليبيا ايام ثورته الجهادية ضد الغزاة وملخصه: ان شيخ السنوسيين في مكة المكرمة يكلفه، بنقل رسالة سرية الى المجاهد عمر المختار في ليبيا بعد ان ضيق الايطاليون عليه الخناق فيوافق على نقل الرسالة على ما فيها من مخاطرة بحياته ويقسم على القرآن الا يخون المجاهدين فيبر بقسمه ويحتمل المشاق تلو المشاق لابلاغ الرسالة، حتى يوفق اخيراً في ابلاغها ثم يعود ادراجه ثانية الى مكة المكرمة محملاً برسالة جوابية من شيخ المجاهدين - رحمه الله- الى الشيخ احمد السنوسي.
كم كان بودي ان استعرض الكتاب في مساحة اوسع مما يتاح عادة لكتاب في جريدة اسبوعية لأوفيه بعض حقه علينا، ولكن حسبنا ان نشير اليه عسى ان تتلقفه يد كريمة فتتصدى لطبعه ثانية، وثيقة صادقة ورائعة عنا نفخر بها امام العالم وهي تروي حكاية من ألفنا واحبنا في الله واختار العيش بيننا مفضلاً صحارينا ومدننا واهلنا على قصور ومدن اوروبا وخوائها الروحي المريع.
 

حقوق النشر مفتوحة 1421 هـ 2000 م