A t h a g a f y
 is presented fully in Arabic and is best experienced using Internet Explorer

شخصية إسلامية حق علينا الإشادة بها

حتى لا ننسى هؤلاء العظماء ونبقي ذكرهم شامخ ، أفردنا هذا الباب لهم ، نهديه إلى قادة الأمة وكافة أفرادها وخاصة شبابها

نقتطف من مواقع الشبكة أو الكتب ، تاريخهم وقصة حياتهم

الأرشيف أو ما نشر من هذه السلسلة

الشيخ محمود محمد شاكر وتحقيق التراث

بتصرف من إسلام أون لاين

 
ظاهرة فريدة في الأدب والثقافة العربية الحديثة، فهو كاتب له طريقته الخاصة لا تبارى أو تحاكى، وشاعر مبدع حقق في الإبداع الشعري ما بلغ ذروته في قصيدته "القوس العذراء"، ومحقق بارع لكتب التراث، قادر على فك رموزها وقراءة طلاسمها، ومفكر متوهج العقل ينقض أعتى المسلمات، ومثقف واسع الاطلاع في صدره أطراف الثقافة العربية كلها فكانت عنده كتابا واحدا.

غير أن العلامة الشيخ محمود محمد شاكر ظل سنوات طويلة في عزلة اختارها لنفسه، يقرأ ويدرس ويصدح في واحته الظليلة، لا يسمع غناءه إلا المقربون منه من تلامذته ومحبيه تاركا الدنيا ببريقها وأضوائها وراء ظهره، ولم يخرج من واحته إلا شاكي السلاح مستجيبا لدعوة الحق حين يشعر بأن ثقافة أمته يتهددها الخطر، فيقصم بقلمه الباتر زيف الباطل، ويكشف عورات الجهلاء المستترين وراء الألقاب الخادعة؛ ولذلك جاءت معظم مؤلفاته استجابة لتحديات شكلت خطرا على الثقافة العربية.

البداية والتكوين

ينتمي محمود شاكر إلى أسرة أبي علياء من أشراف جرجا بصعيد مصر، وينتهي نسبه إلى الحسين بن علي رضي الله عنه، وقد نشأ في بيت علم، فأبوه كان شيخا لعلماء الإسكندرية وتولى منصب وكيل الأزهر لمدة خمس سنوات (1909-1913م)، واشتغل بالعمل الوطني وكان من خطباء ثورة 1919م، وأخوه العلامة أحمد شاكر واحد من كبار محدثي العصر، وله مؤلفات وتحقيقات مشهورة ومتداولة.

انصرف محمود شاكر -وهو أصغر إخوته- إلى التعليم المدني، فالتحق بالمدارس الابتدائية والثانوية، وكان شغوفا بتعلم الإنجليزية والرياضيات، ثم تعلق بدراسة الأدب وقراءة عيونه، وحفظ وهو فتى صغير ديوان المتنبي كاملا، وحضر دروس الأدب التي كان يلقيها الشيخ المرصفي في جامع السلطان برقوق، وقرأ عليه في بيته: الكامل للمبرد، والحماسة لأبي تمام.

المواجهة الخافتة

وربما كان في وسع شاكر أن يكون أحد علماء الرياضيات أو فروع الطبيعة بعد حصوله على شهادة البكالوريا (الثانوية العامة) من القسم العلمي سنة 1925 لكنه فضل أن يدرس العربية في كلية الآداب، وكاد قانون الجامعة أن يحول بينه وبين الالتحاق بقسم اللغة العربية، لولا تدخل طه حسين لدى أحمد لطفي السيد مدير الجامعة وإقناعه بأن يلتحق شاكر بكلية الآداب فأصدر قرارا بذلك.

وفي الجامعة استمع شاكر لمحاضرات طه حسين عن الشعر الجاهلي وهى التي عرفت بكتاب "في الشعر الجاهلي"، وكم كانت صدمته حين ادعى طه حسين أن الشعر الجاهلي منتحل وأنه كذب ملفق لم يقله أمثال امرئ القيس وزهير، وإنما ابتدعه الرواة في العصر الإسلامي، وضاعف من شدة هذه الصدمة أن ما سمعه من المحاضر الكبير سبق له أن قرأه بحذافيره في مجلة استشراقية بقلم المستشرق الإنجليزي مرجليوث.

وتتابعت المحاضرات حول هذا الموضوع، ومحمود شاكر عاجز عن مواجهة طه حسين بما في صدره، وتمنعه الهيبة والأدب أن يقف مناقشا أستاذه، وظل على ذلك زمنا لا يستطيع أن يتكلم حتى إذا لم يعد في الصبر والتحمل بقية، وقف يرد على طه حسين في صراحة وبغير مداراة، لكنه لم يستطع أن يواجهه بأن ما يقوله إنما هو سطو على أفكار مرجليوث بلا حياء أو اكتراث.

وتولد عن شعوره بالعجز عن مواجهة التحدي خيبة أمل كبيرة فترك الجامعة غير آسف عليها وهو في السنة الثانية، ولم تفلح المحاولات التي بذلها أساتذته وأهله في إقناعه بالرجوع، وسافر إلى الحجاز سنة 1928 مهاجرا، وأنشأ هناك مدرسة ابتدائية عمل مديرا لها، حتى استدعاه والده الشيخ فعاد إلى القاهرة.

اكتشاف المتنبي

وبعد عودته سنة 1929 انصرف إلى قراءة الأدب ومطالعة دواوين شعراء العربية على اختلاف عصورهم حتى صارت له ملكة في تذوق الشعر والتفرقة بين نظمه وأساليبه، وبدأ ينشر بعض قصائده الرومانسية في مجلتي "الفتح" و"الزهراء" لمحب الدين الخطيب، واتصل بأعلام عصره من أمثال أحمد تيمور وأحمد زكي باشا والخضر حسين ومصطفى صادق الرافعي الذي ارتبط بصداقة خاصة معه. ولم يكن شاكر معروفا بين الناس قبل تأليفه كتابه "المتنبي" الذي أثار ضجة كبيرة بمنهجه المبتكر وأسلوبه الجديد في البحث، وهو يعد علامة فارقة في الدرس الأدبي نقلته من الثرثرة المسترخية إلى البحث الجاد.

والعجيب أن شاكر الذي ألف هذا الكتاب سنة 1936 ولم يتجاوز السادسة والعشرين من عمره لم يكن يقصد تأليف كتاب عن المتنبي، إنما كان مكلفا من قبل فؤاد صروف رئيس تحرير مجلة المقتطف بأن يكتب دراسة عن المتنبي مسهبة بعض الإسهاب ما بين عشرين إلى ثلاثين صفحة، ولكن هذا التكليف تحول على يد شاكر كتابا مستقلا عن المتنبي أنجزه في فترة زمنية قصيرة على نحو غير مسبوق ونشرته مجلة المقتطف في عددها الصادر في السادس من شوال 1354هـ الأول من يناير 1936م، وصدر فؤاد صروف مجلته بقوله: هذا العدد من المقتطف يختلف عن كل عدد صادر منذ سنتين إلى يومنا هذا، فهو في موضوع واحد ولكاتب واحد.

وقد اهتدى شاكر في كتابه إلى أشياء كثيرة لم يكتبها أحد من قبله استنتجها من خلال تذوقه لشعر المتنبي، فقال بعلوية المتنبي وأنه ليس ولد أحد السقائين بالكوفة كما قيل، بل كان علويا نشأ بالكوفة وتعلم مع الأشراف في مكاتب العلم، وقال بأن المتنبي كان يحب خولة أخت سيف الدين الحمداني واستشهد على ذلك من شعر المتنبي نفسه، وتم استقبال الكتاب بترحاب شديد وكتب عنه الرافعي مقالة رائعة أثنى عليه وعلى مؤلفه.

وكان هذا الكتاب فتحا جديدا في الدرس الأدبي وتحديا لأدباء العصر، فكتب بعده عبد الوهاب عزام كتابه "المتنبي في ألف عام"، وطه حسين "مع المتنبي"، واتهمهما شاكر بأنهما احتذيا منهجه، وسطوا على بعض آرائه، وهاجم شاكر ما كتبه طه حسين في سلسلة مقالات بلغت 12 مقالا في جريدة البلاغ تحت عنوان "بيني وبين طه حسين".

مع سيد قطب والإخوان

وبعد وفاة مصطفي صادق الرافعي بعام أشعل سيد قطب معركة أدبية على صفحات الرسالة سنة 1938م، اندفع إليها بحماس الشباب دون روية، ومتأثرا بحبه الشديد وإعجابه الجامح بالعقاد، فهاجم أدب الرافعي وجرده من الإنسانية، والشاعرية واتهمه بالجمود والانغلاق، فثار محبو الرافعي على هذا الهجوم الصارخ، وقاد شاكر الدفاع عن شيخه وفند ما يزعمه سيد قطب، ودخل معه في معركة حامية لم يستطع الشهيد سيد قطب أن يصمد فيها.

ثم تجددت المعركة بينهما بعد سنوات طويلة حين كتب سيد قطب مؤلفه "العدالة الاجتماعية في الإسلام"، وكان سيد قطب قد بدأ مرحلة التحول إلى الفكر الإسلامي، وحمل الكتاب ما اعتبر نقدا وتجريحا لبعض الصحابة، فانتفض شاكر وكتب مقالة شهيرة في مجلة "المسلمون" تحت عنوان " لا تسبوا أصحابي" سنة 1952م.

وهذا يجرنا إلى محاولة معرفة الموقف السلبي الذي اتخذه شاكر من جماعة الإخوان المسلمين، وكان شديد الهجوم عليهم، ولا يعرف حتى الآن الأسباب التي دعته إلى اتخاذ هذا الموقف، فهل كانت المعركة بينه وبين سيد قطب من أسباب ذلك؟! وهل الذين اتصلوا به من جماعة الإخوان كان لهم دور في توسيع الخلاف بينه وبينهم؟! ويجدر بالذكر أنه حين أنشئت داخل جماعة الإخوان المسلمين لجنة الشباب المسلم للتفرغ للدرس والبحث وبعيدا عن الانشغال بالنشاط الحركي، اتصلت بمحمود شاكر، وكان في برنامجها أن يقوم بتدريس السيرة النبوية لها بناء على اقتراح من المرشد العام حسن البنا، وعقدت عدة لقاءات، وعلى الرغم من هجوم شاكر على حسن البنا، فإن الأخير كان يصر على إتمام هذه اللقاءات للاستفادة من علم الأديب الكبير دون أن يتأثر بما يقوله عنه.

العالم الإسلامي في بيت شاكر

كانت فترة الخمسينيات فترة مشهودة في حياة شاكر، فقد ترسخت مكانته العلمية وعرف الناس قدره، وبدأت أجيال من الدارسين للأدب من أماكن مختلفة من العالم الإسلامي يفدون إلى بيته، يأخذون عنه ويفيدون من علمه ومكتبته الحافلة، من أمثال: ناصر الدين الأسد وإحسان عباس، وشاكر الفحام، وإبراهيم شبوح، فضلا عن كثير من أعلام الفكر الذي كانوا يحرصون على حضور ندوته الأسبوعية كل يوم جمعة عقب صلاة المغرب، مثل فتحي رضوان ويحيى حقي، ومحمود حسن إسماعيل، ومالك بن نبي، وأحمد حسن الباقوري، وعلال الفاسي، وعبد الرحمن بدوي، وعبد الله الطيب.

وشهدت هذه الندوة الدروس الأسبوعية التي كان يلقيها شاكر على الحاضرين في شرح القصائد الشعرية التي تضمنها كتاب الأصمعيات، وقد انتفع بهذه الدروس كثيرون، وكان الأديب الكبير يحيى حقي يعلن في كل مناسبة أن شاكر هو أستاذه الذي علمه العربية وأوقفه على بلاغتها، وأن ترجمات كتب مالك بن نبي خرجت من بيت شاكر، فقد قام أحد أفراد ندوته وترجمها إلى العربية وهو الأستاذ الدكتور عبد الصبور شاهين، وكان آنذاك شابا صغيرا في بداية مشواره العلمي.

وفي ندواته الفكرية في بيته كان يعارض عبد الناصر علانية ويسخر من رجالات الثورة، ويستنكر ما يحدث للأبرياء في السجون من تعذيب وإيذاء وكان يفعل ذلك أمام زواره ومن بينهم من يشغل منصب الوزارة، كالشيخ أحمد حسن الباقوري وزير الأوقاف آنذاك، ونتيجة لذلك لم يسلم شاكر من بطش السلطة، فألقت القبض عليه سنة 1959م، وبقي رهن السجن 9 أشهر حتى تدخلت شخصيات عربية، فأفرج عنه وعاد لمواصلة نشاطه في تحقيق كتاب تفسير الطبري الذي بدأ في نشره من قبل، وانتظمت ندوته مرة أخرى.

أباطيل وأسمار

وظل شاكر في عزلته الاختيارية بين كتبه وتلاميذه ومحبيه، لا يشارك في الساحة الفكرية بمقالاته وآرائه حتى بدأ لويس عوض في نشر سلسلة مقالات له في جريدة الأهرام سنة 1964م، تحت عنوان "على هامش الغفران" وكان الكاتب قد لمع نجمه بعد تعيينه مستشارا ثقافيا لجريدة الأهرام، وأصبح مهيمنا على أمور الثقافة في مصر وصار له حواريون وسدنة يبشرون بآرائه.

وقد أثارت مقالات لويس عوض موجة من الشغب بين أوساط كثير من المثقفين لما فيها من تحامل على الشيخ المعري، ولم يجرؤ أحد على الرد سوى محمود شاكر الذي خرج من عزلته، وانبرى للويس عوض في سلسلة من المقالات المبهرة في مجلة الرسالة، كشفت عما في مقالات لويس عوض من الوهم والخلط التاريخي والتحريف في الاستشهاد بشعر أبي العلاء المعري، وعدم تمحيص الروايات التاريخية، والادعاء بتلقي المعري علوم اليونان على يد أحد الرهبان. وكانت مقالات شاكر التي ظهرت تباعا حدثا ثقافيا مدويا كشفت عن علم غزير ومعرفة واسعة بالشعر وغيره من الثقافة العربية، وقدرة باهرة على المحاجاة والبرهان، ولم تقف هذه المقالات التي بلغت ثلاثا وعشرين مقالة عند حدود الرد على كلام لويس عوض، بل انتقلت إلى الحديث عن الثقافة والفكر في العالم العربي والإسلامي، وما طرأ عليها من غزو فكري ولا سيما حركة التبشير التي غزت العالم الإسلامي.

وتدخل الناقد الكبير محمد مندور عند شاكر ليوقف مقالاته دون جدوى، وأصاب لويس عوض الذعر والهلع من مقالات شاكر التي فضحته بين أوساط المثقفين، وكشفت عن ضعف ثقافته حتى في تخصصه في الأدب الإنجليزي حين كشف شاكر عن فساد ترجمته العربية لمسرحية الضفادع لأرسطوفان، وراح لويس عوض يطوف على المجلات والصحف يستنصرهم ضد شاكر ويزعم أن المعركة بينهما معركة دينية، ولم يتوقف شاكر عند كتابة مقالاته حتى أغلقت مجلة الرسالة نفسها، وألقي به في غياهب السجن سنتين وأربعة أشهر من آخر شهر أغسطس سنة 1965م، حتى آخر شهر ديسمبر سنة 1967م، وقد جمعت هذه المقالات في كتابه "أباطيل وأسمار" الذي يعد من أهم الكتب التي ظهرت في المكتبة العربية في النصف الأخير من القرن العشرين.

معارك فكرية أخرى

وبعد خروجه من السجن هذه المرة عاد إلى ما كان عليه من قبل، فكتب في مجلة "المجلة" 7 مقالات إضافية تحت عنوان "نمط صعب، نمط مخيف" استجابة لصديقه الأديب يحيى حقي، حين أشاد بترجمة الشاعر الألماني "جوته" لقصيدة من قصائد الشاعر الجاهلي "تأبط شرا" وتساءل حول الترتيب الذي اقترحه الشاعر الألماني حين ترجم القصيدة إلى الألمانية، وحول الشعر القديم وروايته وافتقاد القصيدة العربية إلى الوحدة، وقد اقتضت الإجابة حول هذه الأسئلة تشعبا في الكلام، وامتدادا في أطرافه بلغ 400 صفحة حين جمع المقالات في كتاب، وقد تخلل ذلك نقد محكم للدكتور عبد الغفار مكاوي حين أعاد ترجمة قصيدة جوته إلى العربية، ودارت بينهما معركة قصيرة حول هذه الترجمة التي اتهمها شاكر بالركاكة والسقم.

ثم دارت معركة أخرى بينه وبين الباحث العراقي الدكتور علي جواد الطاهر حول تحقيقه كتاب "طبقات فحول الشعراء" لابن سلام الجمحي، وتولد عن ذلك كتابه "برنامج طبقات فحول الشعراء".

تحقيق كتب التراث

يعد شاكر على رأس قائمة محققي التراث العربي، وأطلق عليه العقاد المحقق الفنان، وإنجازاته في هذا المجال كثيرة، وهي عنوان على الدقة والإتقان، ومن أشهر الكتب التي حققها: تفسير الطبري (16 جزءا)، طبقات فحول الشعراء (مجلدان)، تهذيب الآثار للطبري (6 مجلدات).. وشاكر لا يحب أن يوصف بأنه محقق لنصوص التراث العربي، وإنما يحب أن يوصف بأنه قارئ وشارح لها، وهو يكتب على أغلفة الكتب التي يقوم بتحقيقها عبارة: "قرأه وشرحه" وهذه العبارة كما يقول الدكتور محمود الربيعي "هي الحد الفاصل بين طبيعة عمله وطبيعة عمل غيره من شيوخ المحققين، إنه يوجه النص ويبين معناه بنوع من التوجيه أو القراءة التي تجعله محررا؛ لأنها قراءة ترفدها خبرة نوعية عميقة بطريقة الكتابة العربية، وهو إذا مال بالقراءة ناحية معينة أتى شرحه مقاربا، وضبطه مقنعا، وأفق فهمه واسعا، فخلع على النص بعض نفسه وأصبح كأنه صاحبه ومبدعه".

صاحب رسالة

لم يكن شاكر في يوم من الأيام موظفا يمد يده نهاية كل شهر إلى مرتب ينتظره فتكون للحكومة كلمة نافذة في رزقه ومكانته، بل انقطع لعلمه وفكره ومكتبته وبحثه ودرسه وزملائه وتلاميذه كالراهب الذي انقطع للعبادة في صومعته.

وعاش على أقل القليل يكفيه ويسد حاجته، ومرت عليه سنوات عجاف لكنه لم ينحن أو يميل على الرغم من أن بيته كان مفتوحا لتلاميذه وأصدقائه وعارفي فضله.

ولم يكن له من مورد سوى عائده من كتبه التي كان يقوم بتحقيقها، وكان اسمه على صدرها يضمن لها النجاح والرواج، ولم يكن يأخذ شيئا على مقالاته التي يكتبها، فأعاد لمجلة العربي الكويتية سنة 1982م مائة وخمسين دولارا نظير مقالة كتبها ردا على الكاتب اليمني عبد العزيز المقالح حول طه حسين، ورفض أن يتسلم من دار الهلال مكافأته عن تأليفه كتابه المهم "رسالة في الطريق إلى ثقافتنا".

ولأنه كان يشعر أنه صاحب رسالة فإنه كان ينتفض حين يرى انتهاك حرمة من حرمات اللغة العربية فيقف مدافعا عنها بكل ما يملك من أدوات علمية وفكرية، تجعل الخصم يسلم بما يقول أو يلوي هاربا. ومعاركه كلها جمعت في كتب وصارت وثائق في تاريخنا الفكري الحديث، كتبها هو من موقع المدافع والحارس لثقافة الأمة، ولولا خصومه لما ظهرت معظم مؤلفاته؛ لأنها كانت استجابة لتحديات عظيمة، وهي تظهر عظمة شاكر؛ لأنه لم يحتشد لها مثلما يحتشد المؤلفون عند تأليف كتبهم وإنما دخلها كارها مستندا إلى ثقافة واسعة وعلم غزير، وفكر ثاقب وروح وثابة، فأتى بالعجب العجاب.

وفي أخريات عمره رد له بعض الاعتبار، فنال جائزة الدولة التقديرية في الأدب سنة 1981م، ثم جائزة الملك فيصل في الأدب العربي عام 1984م، وفي أثناء ذلك اختير عضوا في مجمع اللغة العربية بدمشق، ثم بالقاهرة.

وبعد رحلة حياة عريضة رحل أبو فهر شيخ العربية وإمام المحققين في الساعة الخامسة من عصر الخميس الموافق 3 من ربيع الآخر 1418هـ= 6 من أغسطس 1997م) ولبى نداء ربه.. فسلام عليك أبا فهر.

تابع في نفس الموضوع:

الجانب الإنساني في حياة "شاكر" يرويه ابنه "فهر"

 

الشيخ/ محمـود شاكـر

منقول من نور الإسلام - العدد الثاني - شعبان 1418 هـ - ديسمبر 1997 م

منــذ أسابيع قليلة رحل رائد من رواد تحقيق التراث العربى الإسلامى .. أمضى حياته فى رحلة علمية طويلة وعطاء فياض لخدمة الإسلام والدفاع عن أصوله ومبادئه والوقوف أمام تيارات الحداثة والتغريب والرد على أذناب التنوير المزعوم .. رحل عنا الشيخ محمود شاكر وودع سجن الدنيا وانتقل الى جوار ربه تاركاً نموذجاً طيباً وقدوة حسنة وفكراً إسلامياً مستنيراً .‏

ولد الشيخ محمود محمد شاكر عام فى الإسكندرية ورحل عن عمر يناهز الـ 90 عاماً وكان أبوه جندياً من جنود الدعوة والإرشاد فانتقل الى القاهرة وظل يعمل لفتره كبيرة كوكيل للجامع الأزهر .‏

التحق الشيخ محمود شاكر بالجامعة المصرية عام وعمره آنذاك عاماً وبدأ جهاده الفكرى مبكراً وهو لا يزال فى السنوات الأولى بكلية الآداب حتى أعلن اعتراضه ورفضه لأفكار أستاذه طه حسين التخريبية والتى تحاول النيل من التراث العربى الإسلامى فوجه الدكتور طه حسين انتقادات عديدة وخاصة حين أعلن أن الشعر العربى موضوع ومنحول كله .‏

وبدأ شيخنا يكتب سلسلة من المقالات النارية فى مجلة الرسالة تحت عنوان نمط صعب وذلك فى مواجهة صريحة معلنة مع هؤلاء التخريبيين الذين يريدون هدم الكيان الحضارى العربى والإسلامى والتشكيك فى أصول اللغة العربية ‏

وبرغم هذا العطاء المبكر يقول الشيخ محمود شاكر عن الفترة الأولى من حياته م قضيت عشر سنوات من حياتى فى حيرة زائغة ، وضلالة مضيئة ، وشكوك ممزقة، حتى خفت على نفسى الهلاك ، وأن أخسر دنياى وآخرتى ، محققا إثما يقذف بى فى عذاب الله بما جنيت ، فكان كل همى يومئذ أن ألتمس بصيصا أحتذى به إلى مخرج ينجينى من قبر هذه الظلمات المطبقة على من كل جانب . فمنذ السابعة عشر من عمرى عام الى أن بلغت السابعة والعشرين عام كنت منغمسا فى غمار حياة أدبية بدأت أحس إحساسا مبهما متصاعدا بأنها حياة فاسدة من كل جانب ويواصل شيخنا الحديث عن نفسه قائلا لم أجد لنفسى خلاصاً إلا أن أرفض متخوفا حذرا شيئا فشيئا أكثر المناهج الأدبية والسياسية والاجتماعية والدينية والتى كانت يومئذ تطغى كالسيل الجارف يهدم السدود ، وبقوض كل قائم فى نفسى ، وفى طريقى ، ويومئذ طويت كل نفسى على عزيمة ماضية أن أبدأ وحيداً متفردا رحلة طويلة جدا ، وبعيدة جدا ، وشاقة ومثيرة جدا .. بدأت بإعادة قراءة الشعر العربى كله ، أو ما وقع تحت يدى منه على الأصح ، واكتسبت بعض القدرات بلغة الشعر ويفن الشعر ، ثم تدرجت وقرأت ما يقع تحت يدى من كتب أسلافنا من تفسير لكتاب الله ، إلى علوم القرآن الكريم مع اختلافها الى دواوين من حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم وشروحها ، إلى ما تفرع عليه من كتب علماء الحديث وكتب الجرح والتعديل إلى كتب أصول الفقه وأصول الدين ،وشئت بعد ذلك من أبواب العلم .‏

وسافر شيخنا الى السعودية فتره من الزمن وانشأ هناك مدرسة جدة الابتدائية على المبادئ والقيم الإسلامية التى لا تتبدل ولا تتغير وحين عاد الى مصر طالب طه حسين بان يكون الشيخ أحد أعضاءه وذلك بعد عشرين عاما أو ما يقرب من الخصومة .‏

ومع بداية الستينات بدأ معركة فكرية أخرى مع الكاتب العلمانى لويس عوض والذى أعلن أن الصفحات الرائعة من التراث العربى يرجع الفضل فيها لليونانيين ، واللاتينيين ، ثم راح يشكك فى شعر المغربى ، وجذوره الثقافية كأنه يريد أن يسير على نفس الدرب الذى سار عليه طه حسين وكافة التغريبيين?.‏

جرأتـه فى الحـق

وواجه شيخنا هذه الإدعاءات وفند أكاذيبها فى مجلد أسماه أباطيل وأسمار استخدم فيه منهجاً علمياً متميزاً فى البحث والدراسة ومن أشهر ما كتبه الشيخ أيضا كتابه القيم المتنبى ومن أشهر ما حققه تفسير الطبرى وفى السابعة والخمسين من عمره وبالتحديد فى عام اعتقل شيخنا ظلماً وعدواناً واحتمل ظلمة وغياهب المعتقلات ورفض أن يعتذر عن تمسكه بدينه وعن ذنب هو منه براء .‏

وفى عام أو بعد خروجه من السجن انتخب مراسلاً لمجمع اللغة العربية فى دمشق وكرمته الدولة بجائزتها التقديرية عام وانتخب عضوا بمجمع اللغة العربية عام وفى نفس العام استحق بجدارة جائزة الملك فيصل العالمية وفى منتصف الثمانينات واصل جولاته الفكرية الناجحة وانتقد بشده أفكار نجيب محفوظ وزكى نجيب محمود ووصفهما بأنهما مثل طه حسين وتوفيق الحكيم مقلدون للغرب وليسوا مبتكرين إنهم يقدمون نفس الرؤى التى ينادون بها ولهذا فهم يسيرون فى طريق الخطأ وقال عنهم إن شيئاً مفيداً لمجتمعهم ولا لقضايا مجتمعهم ، ولو كانوا يسيرون فى طريق صحيح لكان لهم شأن آخر صحيح أنهم مجتهدون ولهم مجهود دائم ، ولكنها ضئيلة ، وباهتة فعندما أنظر الى الوجود الحقيقى لطه حسين أو توفيق الحكيم أو إحسان عبد القدوس ، ونجيب محفوظ أراه وجودا ليس مفيدا لقضايا مجتمعهم أو مشاكل وطننا.‏

ولعل جرأة شيخنا فى الحق وفى الصدع به كانت سببا فى تجاهل الأجهزة الإعلامية له ولمنهجة الفكرى إلى أن رحل عن دنيا الزيف إلى مستقر ررحمة الله التى وسعت كل شئ .?‏

محمود شاكر في سطور

ولد الشيخ محمود شاكر فى مدينة الإسكندرية عام ثم انتقل فى السنة نفسها إلى القاهرة بعد انتقال والده إليها وكيلا للجامع الأزهر ، بعد تلقى تعليمه الأساسى التحق بالجامعة المصرية عام ولكن نشب خلاف بينه والدكتور طه حسين فترك الجامعةوسافر الى المملكة العربيه السعودية وانشأ مدرسة جدة الإبتدائية وعمل مديرا لها بعض الوقت.‏

انتخب عضوا مراسلا لمجمع اللغة العربية فى دمشق عام وعضوا عاملا بمجمع اللغة العربية عام وعـضــوا بـمـجمع الخالــديـن عــام .‏

حصل عى جائزة الدولة التقديرية فى الآداب عام .‏

حصل على امتياز مجلة العصورî فى عام وصدر منها عددان ثم توقفت .‏

له ما يزيد على مقالة موزعة بين الدوريات المصرية القديمة والحديثة والدوريات العربية .‏

من أشهر مؤلفاته المتنبى و أباطيل وأسمار .‏

له من الأبناء فهر وزلفى. وتوفى بمصر نهاية الأسبوع الأول مــن شهر ربيـع الآخـر هـ .‏

حصل على جائزة الملك فيصل العالمية عام عن كتابه المتنبى  الذى يقع فى مجلدين من القطع الكبير صفحة وقد أنجز هذا الكتاب سنه ثم أعاد تحقيقه وتنقيحه وتزويده بوثائق جديدة عام .. وبذلك يعد المصرى الرابع الذى يحصل على هـــذه الـجــائــــزة.‏

عظيم الناس من يبكى العظاما ويندبهم ولو كانوا عظاما



الشيـخ الشعــراوى " يبكيه " بعد رحيلـه

 
المحقق والمفكر الإسلامى الكبير محمود شاكر فى رحاب الله
العظماء فى التاريخ قليل .. ومن يحذو حذوهم أيضاً

محمود شاكر كالحبة التى ينبت الله بها سبع سنابل فى كل سنبلة مائة حبة .‏

فند مزاعم أستاذه طه حسين فى كتابه الشعر الجاهلى î وهو ما زال طالباً .‏

تصدى فى كتابه أباطيل وأسمار î لمحاولات لويس عوض تغريب الأمة .‏

له آثار جليلة فى تحقيق التراث من تفسير وحديث وشعر ونثر .‏

تبحث الأمم عن آثار عظمائها فى وفى أزماتها .. وفى أزمة التراث الإسلامى يجب أن نبحث عن آثار هذا العظيم الذى رحل عنا قريبا محمود محمد شاكر .‏

كما يكون الخير فى حياة العظماء يكون الخير فى موتهم أيضا . ذلك لأن حياتهم عطاء كبير . ولأن موتهم تنبيه إلى من بعدهم ليحملوا الرسالة ويواصلوا المسيرة .‏

وكما أن العظماء فى التاريخ قليل ، فإن من يحذو حذوهم قليل أيضاً ، وتلك حكمة الله فى البشر ، فالله سبحانه وتعالى يصلح أمة بصلاح فرد .. وهكذا كان الأنبياء الذين بلغوا رسالات الله إلى البشر ، لأن البشر عجزوا عن القضاء على آفات البشر بأدوية البشر .فكان لابد أن تتدخل السماء لحسم هذا الداء وحتى لا يتأبى بشر على من خلق البشر .‏

إن من هؤلاء العظماء القليلين الأستاذ الشيخ محمود شاكر إمام المحققين للتراث الإسلامى فى العصر الحديث .‏

لقد نبه هذا الرجل بحياته أمته إلي النظر فى تاريخ أعلامه والأخذ من هذا التاريخ سيرة وعلما ، ونبه أمته بموته إلى أن عليها مسئولية المواصلة على الطريق ، والسير على الدرب والأمل فى الله سبحانه قائم أن من مأثوراتنا الإسلامية ان الله يبعث على رأس كل مائة سنة من يحدد لهذه الأمة أمور دينها ، ويبعث النهضة التى غفلت عن جذورها فى علم الآباء والأجداد ليظل منهج السماء واضحا من كل لبس وهاديا لكل الحاد


معركته مع طـه حسـين

إن الذين حركتهم وفاة هذا الرجل لبيان رسالته إلى العامة قليل من الكتاب ولكن عملهم كان جليل الشأن لأنهم من النخبة ، والنخبة دائما عددهم قليل ، لكن أثرهم كبير وخطير ، فهم مثل الحبة التى ينبت بها سبع سنابل فى كل سنبلة مائه حبة..‏

ولقد كان هذا الرجل حبة مباركة . ملأ صوته الدنيا ، وهو لا يزال شابا لم يبلغ العشرين وكان إذ ذاك فى سن الاستعداد العلمى حيث كان طالبا فى السنة الثانية من كلية الآداب .. فتى فى أول شبابه الجسمى ، ولكن عقله كان قد اكتمل بالمعرفة والنضوج إلى الحد الذى نازل فيه أستاذه الدكتور طه حسين ومهما تكن النيه التى توافرت لدى هذا الأستاذ وهو مصدر كتابه الشعر الجاهلى î فإن موضوع الكتاب كان خطيرا للغاية .‏

لقد كان يدعى أن الشعر الجاهلى لا أساس له وهو غير حقيقى لأنه منتحل فى عصر الإسلام وهو بهذا ينفى عن الأمة العربية كتاب حياتها فالشعر ديوان العرب . وبالتالى فهو ينفى النموذج الذى تحداه القرآن الكريم وبهذا يسقط عن القرآن إعجازه ، بالإضافة الى التداعيات الأخري لهذا الكلام .‏

والكتاب يموج بمفتريات متعددة على قصص الأنبياء ، وتاريخ الأمم السابقة على الإسلام .‏

ولقد لقى هذا الكتاب تأييداً واسعا باسم الحرية التى يجب أن تتوافر للأدباء والكتاب والفنانين ولكنه وجد معارضة أوسع لأن الحرية يجب أن تكون للبناء وليس للهدم ، وأن تكون حركتها داخل إطار يوجهها إلى الخير وليس إلى الشر .‏

ولقد وقف الأزهر الشريف عند هذا الكتاب وقفة تريد الإصلاح وترفض الإفساد .‏

وهيئة مثل الأزهر الشريف حين تقف هذه الوقفة إنما تستعين بإعلامها وعلمائها الكبار الذين لهم فى العلم قدم ثابته ورسوخ عتيد .‏

لكن أن يقف شاب فى السنة الثانية من كلية الآداب ضد أستاذه فى قضية كهذه ، فإن هذا يشد الانتباه جدا ، لقد فند مزاعم أستاذه الذى حاد عن الطريق تفنيدا قويا واضحا ورد عليه ما قال كان الدكتور طه حسين وقتها ملء السمع والبصر . عاد من باريس بعد أن حاز أرقى الشهادات وجاء ليردد ما سمعه وتلقاه فى الخارج عن تراثنا العربى والإسلامى ودخل اليه بحيلة ماكرة ، جازت على الكثيرين وضاعت حقائق كثيرة فى رخامة صوته وحسن إلقاء ما يقول فى أسماع الناس وأهل الحقيقة الذين لا تنطلى عليهم هذه الحيل قليلون ولكن كان منهم هذا الشاب الفتى فى كلية الأداب ، ولأنه كان من أهل الحقيقة فقد وجد أن وجوده فى الجامعة لن يؤدى إلى الغرض الذى يهدف اليه ..

فإذا كان هذا هو حال أستاذه الذى جاء إلى الجامعة ليتلقى عنه فالبقاء فيها عبث وأى عبث ، وهجر الجامعة ليتعلم من كتب التراث التى تملأ جدران بيوت قومه وهى كثيرة وكانت حصيلته وفيرة .‏

ومع لويس عوض أيضاً

اذا كانت هذه هى معركتة الأولى نازل فيها رجلا قوى الشكيمة واسع الحيلة ،فإنه مع جهود الآخرين اضطره إلى التراجع عما قال وغير فى كتابه الشعر الجاهلى ماكان موضع المؤاخذة لكنه أبقى فيه سموماً أخرى أزرت بالكتاب من أن يقتنيه الناس وجعلت المطابع تعزف عن طبعه ونشره .‏

لكن آثار التغريب لا تزال قائمة بين من يسمون أنفسهم بالمثقفين وما هم بالمثقفين فترى بين الحين والحين كلاما يكتب عن حرية الكاتب ونرى الحديث عن كتاب الشعر الجاهلى î مدسوسا في هذا الكلام وسياسة التغريب لا تكف عن المحاولات حتى إننا رأينا منذ عامين تقريبا مجلة تصدرها الدولة وتنفق عليها من أموالها ،ولكن يرأس تحريرها أحد هؤلاء الذى يسمون أنفسم بالمثقفين الداعين إلى حرية الكلمة الخارجة على النظام رأينا هذه المجلة تنشر النص الأول لكتاب الشعر الجاهلى î الذى رجع عنه مؤلفها وأدخل فيه تعديلات .‏

سياسة التغريب هذه هى التى دعت المحقق العظيم محمود شاكر إلى الدخول فى معركة أخرى ضد الدكتور لويس عوض حينما زعم أن فكر أبى العلا المعرى وفلسفته ليست أصيلة عنده ، وإنما هى مأخوذة عن فكر أجنبى ومعنى هذا أن العبقرية العربية ليست عبقرية خلاقة وإنما هى عبقرية تابعة وناقلة وكثيرة هى الإدعاءات ضد العربية والإسلام التى جاءت فى كتابات الدكتور لويس عوض .‏ وكنا نحب له أن يكون صادقا مع الواقع ومع التاريخ لكنها مدرسة تغريب أمتنا وإبعادها عن ثروتها الحقيقية وهذا عداء للإسلام أولا وقبل كل شئ يحتاج إلى الذين يدفعونه .‏

ولقد كان محمود شاكر جديرا بهذا الدفع فتصدى لمقولات الدكتور لويس عوض وأجهضها تماما ، وهو ما اعترف به الدكتور لويس عوض نفسه عندما جمع مقالاته التى كتبها عن المعرى فى كتاب ،وقال إنه لولا شدة الاستاذ محمود شاكر فى مناقشته لأفاد من علمه وتحقيقة كثيراً .‏

ومن هنا إن الدكتور لويس عوض يعيب وسيلة محمود شاكر ولا يعيب علمه ولا تحقيقه .‏

وهذا اعتراف حمدناه فى حينه للدكتور لويس عوض ونحمده له بعد سنوات من وفاته لكننا نحمد أكثر وأكثر صنيع الأستاذ المحقق العظيم محمود شاكر îفى مقالاته التى كتبها في مناقشة الدكتور لويس عوض وجمعها فى كتاب باسم أباطيل وأسمار î كشف فيه قضيه التغريب والأخذ عن المستشرقين وهو كتاب تعليمى للمثقفين بالمعنى العام الذين يريدون أن يعرفوا موقف الفكر العربى الإسلامى من قضية التغريب وخطورة الأخذ من المستشرقين .‏


تحقيق التـراث

وقضية محمود شاكر لم تكن فقط التصدى للدكتور طه حسين ولا للدكتور لويس عوض إانما كانت العودة بتحقيق التراث إلى أصوله ومنابعه الأولى التى قام عليها العلماء المسلمون ، منذ الصدر الأول للإسلام هذا التحقيق الذى ظل ممتدا حتى عصرنا الحاضر قام عليه شيوخ أعلام من أبرزهم الشيخ محمود شاكر ولقد كانت فطنته أنه اتبع الأولين وأحيا طرائقهم .‏

وأن قضية جمع القرآن فى عهد أبى بكر الصديق رضى الله عنه هى أولى الدرجات فى علم تحقيق التراث الإسلامى ومع أنها أولى الدرجات فإنها كانت وافية تماما للتأكد من صحة النص وصحة نسبه إلى الذي نزل عليه القرآن .‏

وجمع الحديث وتحقيقه جاء من كونه المصدر الثانى للتشريع وأنه شارح للقرأن ومفصل لمجمله إلى غير ذلك مما يعرفه الناس عن مكانة حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم من القرآن .‏

إن المدرسة الإسلامية جاءت فى تحقيق الحديث بعلم غير مسبوق فى تحقيق تراث الأمم . ولم يلحق به لاحق حتى الآن ولا المستشرقون الذين يزعمون أنهم أصحاب فضل فى تحقيق التراث الإسلامى .‏

إن علماء الحديث بذلوا جهودا جبارة فى مراجعة ما جمعوا من حديث للتأكد من صحة نسبها الى رسول الله صلى الله عليه وسلم وقسموا الأحاديث الصحيحة إلى درجات كثيرة فى صحتها ، فمنها المتواتر ،ومنها الآحاد ، ومنها الصحيح لنفسه ، ومنها الصحيح لغيره ومنها الحسن ، وغير ذلك مما يمكن الرجوع إليه فى هذا العلم العظيم الذى يجب أن يسود حياتنا الثقافية وأن نجد لقواعده أثرا فى تحقيقاتنا للتراث الإسلامى وهو الأمر الذى احتذاه محمود شاكر فى تحقيقه للتراث سواء فى مناقشات للمتغربين والمارقين من المعرفة الاستشراقية ومن هنا تأتى أهمية الرجل ولفت الأنظار اليه فى حياته وما كان من أثر وفاته فى تنبيه العقول إلى تراث الأمة وتحقيق علماءها له بأنفسهم بعد أن يتعلموا هذا الفن الجليل ويستكملوا أسبابه من علم بلغة القرآن وفى القرآن والحديث والتاريخ الإسلامى وما تركه لنا الأجداد من مخطوطات بعضها بين أيدينا وبعضها سرقه الاستعمار الاستشراقى من خزانات كتبنا . وإن محمود شاكر له آثار جليلة فى تحقيق التراث من تفسير وحديث وشعر ونثر .‏

إن آثار محمود شاكر تجعل من شخصيته علما قائما بذاته يا حبذا لو حفظنا هذا العلم وعملنا به وجعلنا من ذلك الرجل أسوة حتى لا يتخاذل حق أمام ضوضاء باطل .‏

 

حقوق النشر مفتوحة 1421 هـ 2000 م