"الشات" العربي بعيون دانمركية

تجربتي في مواقع الحوار العربية

كان ذلك في أواخر شهر فبراير من هذا العام، عندما وقعت تحت يدي الصفحة الأولى من جريدة "الحياة اللندنية"، والتي ربما سقطت سهواً، من أحد زوار مكتب مساعدة اللاجئين، الذي أعمل فيه.

على أعلى يمين الصفحة عنوان موقع صخر.. ومن موقع صخر حصلت على برنامج سندباد.. وأصبح العالم العربي مثل كتاب مفتوح، بين يدي.

أعمل مستشارة متعددة الثقافات، ومن هذه الثقافات الثقافة العربية، بالطبع، لأني وإن كان البعض لا يعتبرني عربية، إلا أني أنطق العربية قراءة وكتابة.. أنطق بها وأحلم وأفكر وأتمتع بشعرها ونثرها.. لكن لم يخطر ببالي أن أدخل موقعاً عربياً، أو أن أنسجم مع مشاهدة فيلم عربي على محطة فضائية، مثلما يفعل الكثير من العرب هنا، ربما لأني من الجيل الثاني، الأكثر اندماجاً وتأقلماً مع المجتمع الأوروبي من جيل الآباء الأول، الذي حافظ على تراثه وتقاليده على الرغم من بعده عن بلد الآباء والأجداد.

صفحة صخر قادتني إلى مواقع كثيرة، منها موقع "أين"(www.ayna.com) ، ومن "أين" دخلت إلى موقع "الجلسة" (www.jalsah.com)، ومنها إلى "الساحات" (www.fares.net/saha)، فـ "ساحة الحوار" ، فـ "مجلس الكيوكات" (www.qcat.net).

وجدت في "الشات" العربي ضالتي المنشودة. فأنا بحاجة إلى سماع الحوار العربي العربي، بين العرب أنفسهم، وفي بلادهم، لذلك كنت أعتقد أنه يجب علي الصمود في هذا المجتمع الجديد الذي أدخله للمرة الأولى.

البداية كانت صعبة وتعريفي بنفسي واستعدادي لإعطاء بريدي الإلكتروني لكل من يطلبه أوقعني في مشاكل عديدة. فقد تصرفت وفقا للعادات الدانمركية، ولم أدرك خطأ ذلك إلا بعد فوات الأوان.

رنده نيقوسيان..دانمركية.. من أصل أرمني لبناني.. اسم مغر لكثير من الشباب الجاهز لمعاكسة الفتيات دائماً، ولكن هذه المرة معاكسة من نوع آخر.. إنها معاكسات إنترنت.. معاكسات تستخدم أرقى وأروع ما اخترعه الإنسان من تكنولوجيا.

عروض زواج بالجملة!

كتبت مرة مقالاً عن الاختلاف بين الثقافتين العربية والدانمركية.. وذكرت كيف أن الشباب العرب يخطئون في تقدير ابتسامة الفتاة الدانمركية، أو تحدثها بشكل فطري مع شاب عربي يظن في نهاية المطاف أنها أصبحت صديقته أو بمعنى أوضح ما يسمى بالإنجليزية (girl friend). أثبتت التجربة على إنترنت أنه لا داعي للمقدمات.. فقد انهالت علي عشرات العروض بالزواج.. وكثير من العروض المغرية بالدوران حول العالم، والسياحة في بلاد المشرق والمغرب والشمال والجنوب.. وكأن أهل الدانمارك، أو الأرمن، أو اللبنانيين، لم يرزقوا فتاة غيري!

لم تكن الطلبات تحتمل الانتظار. الكل مستعجلون ويريدون الجواب فوراً.. اليوم أو غداً.. ومنهم من يهدد بأنه إذا لم أرسل له جواباً فلن يراسلني مرة أخرى.

الكثير اختبأ وراء أسماء وهمية ارتبطت معظمها بمشاهير المحبين، بدءاً بقيس بن الملوح وجميل بثينة وانتهاء بروميو الذي أراد له شكسبير أن يعيش في المدينة العائمة المسماة فينيسيا. وقلة لم يمنعهم الخجل أو الحياء من ذكر أسمائهم الحقيقية تاركين معها عناوينهم، وأرقام تلفوناتهم الثابتة والجوالة.

قد يظن البعض أني أبالغ، ولكن عندي أكثر من 250 رسالة إلكترونية من أكثر من 130 شخصاً، منهم من أرسل رسالة واحدة ومنهم من أرسل اكثر من رسالة، زيادة في تأكيد المشاعر المتأججة التي تغلي في العروق.

كان الأمر مختلفاً في غرف الدردشة "الشات".. البعض لم يتصور أني أتكلم من الدانمارك، ربما لأنها بلاد بعيدة وصغيرة.. والبعض كان سعيداً بالتعارف وأبدى روحاً متعاونة واستعداداً للمساعدة في أي أمر أطلبه.. وقلة طلبوا مني صراحة الرحيل، لأن أفكاري لا تعجبهم.

الكلام كان ممتعا للغاية، أحياناً، لكنه كان سبباً للإزعاج في كثير من الأحيان، مما دفعني إلى الاحتفاظ بكراس صغير قرب شاشة الكمبيوتر، أدون فيه بعض أرقام الدخول التي كانت مصدر إزعاج.. وكذلك بعض الأسماء، مثل سفود وطناش ودزوز وطخمة و..

اكتشفت أن البعض يتخذ اسمين: اسماً يهاجمني تحته، واسماً يدعي صداقتي في مجلس آخر. ومنهم من يختبئ وراء اسم لا دلالة له، مثل ؟؟ أو ؟؟؟ أو 233 أو أي شيء من هذا القبيل. وربما يكون نظام البروكسي قد ساعدهم على التنصل من أفعالهم الشنيعة، على أساس أن رقم الدخول واحد في معظم الأحيان.

التعارف على الطريقة العربية

الحديث في "الساحة" وعلى صفحة "المجلس" كان يهمني لمعرفة طريقة التعارف العربية التي تختلف اختلافاً جذرياً عن طريقة التعارف في غرف "الشات" الأوروبية.. هناك يقتصر التعارف على سؤال واحد: من أين تتحدث؟ ثم يتم الدخول في الموضوع مباشرة، أما في غرف الدردشة العربية، فتتوالى الأسئلة عن مكان المخاطبة والبلد الأصلي والعمل والدراسة، وكم ليس قليلاً من المعلومات والأسئلة، التي تحاول أن تحدد هوية الشخص المقابل، الذي يستطيع في معظم الأحيان التهرب من الأسئلة ببراعة منقطعة النظير، للاحتفاظ بشخصيته محمية وراء العديد من جدران السرية والكتمان اللذين، لم أرَ داعياً لهما في معظم الأحيان.

لم يختلف الأمر كثيراً مع لوحات الرسائل، مثل "الجلسة" و"الساحات" وبين غرف الحوار … فقد شعرت أني أتعرض إلى عدد أكبر من الأسئلة التي تتعرض لها فتاة خليجية، أو مقيمة في الخليج، أو خليجية مقيمة خارج الخليج … ربما كان ذلك للأجوبة الساذجة التي كنت أكشف بها عن شخصيتي، سواء بقصد أو غير قصد.. ولا أتوقع أن أحداً في "ساحة الحوار" أو "مجلس الكيوكات" كُشفت شخصيته كما حصل معي … ربما كان ذلك لجهلي بالعادات العربية التي اطلعت عليها فيما بعد.. والتي تفرض على الفتاة العربية إخفاء اسمها وراء اسم مستعار، حتى لا تعرف أو توصم باللاأخلاقية، إذا تجاوبت بالقول مع شاب من الشباب، قصدي طبعاً، على "الشات".

معظم الذين يتواجدون الآن على "الساحة" يعرفونني، ولهذا فقد تبلورت المواقف مني، فمنهم من يبادرني بالتحية حين أدخل، ومنهم من يمتنع عن الحديث معي لأن نقاط الالتقاء قليلة.. وصرت أعرف الكثير، وتعلمت كيف أن بعض المواضيع التي يمكن أن تطرح على البعض لا يمكن طرحها مع آخرين …وأن المعلومات التي يمكن إعطاؤها لشخص معين ينبغي إخفاؤها عن الآخرين.

أنا اعتبر نفسي الآن بارعة في التخاطب على "الشات" العربي، وأصبحت أفهم بعض الكلمات التي تكتب باللهجة الخليجية. فصرت أعرف، مثلاً، أن حرف الجيم بدل كاف المؤنث المخاطبة يعني أن الشخص المقابل هو أنثى.. وتأكدت أن هذا من لهجات العرب القديمة، وتسمى في علم اللهجات كشكشة بني أسد، وصرت أعرف، أيضاً، أن الفاء قد تستبدل ثاء والجيم ياء والدال والقاف مدموجتين جيماً.

الذي يحزنني على "الشات" العربي، هو عدم مشاركة الجميع في المواضيع المفيدة. فعلى الرغم من وجود الكثيرين الذين يحرصون على طرح مواضيع مفيدة للمناقشة، إلا أن الكثيرين يبدون لا مبالاة واضحة تجاه تلك الطروحات. فقسم يتواجد في تلك المواقع للترحيب والتوديع عند دخول الآخرين وخروجهم … والبعض يأتي للحديث مع شخص بعينه وفي مواضيع قد تكون خاصة جداً.. وهكذا يكون النقاش المفيد محصوراً بين شخصين أو ثلاثة، وقد تذهب تلك الصيحات لتناول موضوع جاد أدراج الرياح، كمن يصرخ في واد أو ينفخ في رماد .

اختلاف عادات وتقاليد الشعوب

المواضيع التي تهمني أنا شخصياً هي مواضيع العادات والتقاليد، وأنا أسجل كل كلام يقال في هذا الموضوع …ولكن وجدت أن البعض يجد حرجاً في التحدث عن العادات والتقاليد أو الأعراف الموجودة في البلاد …وأنا هنا أريد أن أرسل رسالة صغيرة لهؤلاء …فأقول:

لكل شعب من الشعوب عاداته وتقاليده ومفاهيمه …ولا داعي للخجل منها مهما كانت …وما قد يكون عيباً في عرف معين قد يكون عادياً في عرف آخرين …الدانمركيون، مثلاً، يرون أن طقطقة الأصابع أمر عيب فعله أمام الآخرين في حين أن جميع المجتمعات العربية لا تعمل حساباً لهذا !

المفاهيم تختلف اختلافاً جذرياً بين شعب وآخر. فالجاتوه أو الكيك، عند البوسنيين، مثلاً، يكون مشبعاً بالسكر والشوكولاته أكثر من الكيك العربي …ولكن الكيك عند التاميل في سري لانكا يصنع من طحين العدس المشبع بالبهارات الحارة.. أمر لا يستوجب الخجل ولا الحياء ..لكل شعب عاداته وتقاليده، ويجب أن يكون فخوراً بها مهما كانت.

الاعتذار على "الشات" العربي يتطلب وقتاً أكثر. ففي حين يقتصر الاعتذار بالإنجليزية على كلمة "اعذرني"، إلا أن ذلك غير كاف أبداً للاعتذار من شخص على "الشات" العربي.. لابد أن تصاغ جملتان أو ثلاث للاعتذار.. وقد فوجئت مرة بعد أن وجهت لإحدى الفتيات 5 عبارات اعتذاريه بقولها أن اعتذاري غير مقبول..كانت تلك النهاية بيني وبينها. أنا أفهم كلمة الاعتذار، مثل أمر Delete بلغة الكمبيوتر، تمسح كل ما قبلها ..ولكنها بين المتخاطبين العرب لا تعني ذلك معظم الأحيان.. وأذكر مرة أني تبادلت الحديث مع شخص عن شعر شوقي، ونشأ خلاف حول أحد أبيات شوقي التي قالها في الخمر، فعبرت عن وجهة نظري واعتذرت ممن لم يفهمها وبقيت على الساحة مع آخرين. لكن المفاجأة أن الاعتذارات وتوضيح وجهات النظر بين الذين كانوا يشاركونني في المناقشة استمر ساعة كاملة، بدون أن يتفاهم الطرفان وخرج أحدهما غاضباً من الجلسة.

فتيات عربيات رائعات

الجميل والرائع على "الشات" العربي هو إمكانية تبادل كلمات الحب وبشكل صريح بين الفتيات وعلى الرغم من أنى كنت اعرف أن ذلك ممكن في البلاد العربية إلا أنني كنت أشعر بالخجل عندما توجهه لي إحدى الفتيات، وكنت في البداية أجد صعوبة في الرد على تلك العبارات اللطيفة، وقد علمتني إحدى الفتيات على الساحة كلمة يا حلوج (ما أحلاك)، ولكني شعرت أنى أقوم بإثم عندما وجهتها لإحدى البنات أول مرة.. حيث أنه في الدانمارك وأوروبا الغربية، يفهم توجيه عبارات الحب من أنثى لأنثى، وببساطة، أنه دعوة للشذوذ.

الأمر مختلف مع الرجال والشباب.. فمع وجود الكثيرين الذين يؤمنونبعدم وجود العواطف على صفحات "الشات"، إلا أن بعضهم قد يتمادى في طلب الوصال وفي إبداء عواطف جياشة لم أستطع الشعور بها عبر الإنترنت.. أنا لا أنكر أني أفضل الحديث مع شخص دون آخر، وأني أشعر بالطمأنينة لوجود صديقة قد ترد عني أي اعتداء غير متوقع.. وأنا أحياناً أدخل "الشات" متمنية أن أجد شخصاً معيناً، إلا أني لم أستطع فهم عواطف شخص عمره ضعف عمري ومتزوج وعنده 3 أولاد استمر يناقشني من مكتب عمله 10 أيام حول الزواج، على الرغم من وجود 4 آلاف ميل بيننا، ويصور لي أن الأمر مقبول.

أعتقد أن معظم الفتيات اللواتي يشاركن في "الشات" هن فتيات متميزات، لأن دخول "الشات" ليس سهلاً، والصمود فيه أصعب.. أنا احب –وقد يتفق معي الكثيرات منهن– أن لا نعامل كفتيات ينتظرن عبارات المجاملة والغزل من الشباب والرجال، وإنما كأشخاص ذوات ثقافة عالية وشخصيات مميزة، وبشر لهم عقول مسلحة بالعلم والثقافة، وعواطف ترتكز على السلوك القويم والأخلاق الحميدة.

الكرم العربي

و أخيراً، لا أجد بداً من الاعتراف أني وإن كنت أحيانا أصل إلى أعلى درجات الغيظ وأنا في الساحة، إلا أن "للشات" العربي فضل علي في الالتفات صوب العالم العربي والإسلامي. فقد كنت بعيدة كل البعد عن ذلك الجزء الكبير من العالم، ولابد لي من القول أن الفضل في ذلك يرجع إلى أولئك الأشخاص الذين غمروني بكرمهم _ أنا التي تهجمت مرة على الكرم العربي على صفحات الجلسة، عندما ضايقني بعض قليلي الأدب _ ربما أكون أخذت أكثر مما أعطيت فليس لدي سوى القليل.. وهناك أسماء لابد من توجيه الشكر لها، لأنها فعلا ساعدتني على الصمود والبقاء في مكان غريب وبعيد.. دلال وتهاني ومها ووسن وسعاد وسليمان وقسورة وطيف ونوف وحج نقولا والحيران والجوكر وسدير وأنور وجابر والدكتور و…و…و….و… أوجه لكم جميعا الشكر فأنا أحبكم من كل قلبي، وأشكر لكم كرمكم الزائد، وحسن ضيافتكم وعطاءكم ومساعدتكم.

وختاما لا بد أن انوه إلى أمر واحد، هو أني لم اقصد أن أجرح أحدا أو أنتهك عرفاً، أو أتخطى حدوداً، بهذا المقال.. فقط أردت الكتابة عما شعرت به، وأنا أخوض تلك التجربة، التي بدأتها من قصاصة فيها عنوان صخر، وانتهت بي على صفحات هذه المجلة.

رنده نيقوسيان

randa6@usa.net